"ساري زهري".. بروفيل سينمائي لإمراة "حديدية" من الهند
ليس الفقر، وحده، سبب مشاكل الهند، فهناك الى جواره مشكلة إجتماعية
كبرى، مصدرها التقسيم "الطبقي" لفئاته ومكوناته. فثمة نظام يقسم الناس
الى مجاميع ولا يسمح بإنتقال الأشخاص من مجموعة إجتماعية الى أخرى
مهما كانت الأسباب. فمن يولد فقيراً وينتمي الى "فئة" الفقراء يظل
طيلة حياته فقيراً، ومن تلده أمه غنياً أو
منتمياً الى فئة الحكام يبقى منتمياً اليها. إنها عبودية
ا
جتماعية مطلقة يقول البعض إنها أبقت الهند على قيد الحياة، وانها لولا
هذا النظام لتفتتت ودخلت في فوضى "ثورات" لا نهاية لها. لقد حمل هذا
التبرير معه جوراً وظلماً لانهاية لهما، فاقترن اسم الهند
بالتراجيديات الفردية. ومثل غيره من المجتمعات المبنية على نظام هيكلي
يتسيده الرجال، وضع النساء في المرتبة الدنيا، فخضعن لشروط وقوانين،
كتبها الرجال وفق ما يتفق مع مصالحهم. وهكذا ظلت الهند على ما فيها من
حريات مدنية، واحدة من أكثر دول العالم قهراً للمرأة، وبسبب من
المصالح المرتبطة بين أغنيائها والغرب، سكت الأخير عن الكثير من
الممارسات والقوانين الجائرة ضد الهنديات، فبدت الهند، للآخرين
خارجها، خالية منها!
اليوم، ومع الانفتاح الإعلامي الكبير، عرف العالم
بعض تلك المشاكل وراح بعض أبناء الغرب نفسه، ومن الساعين لمعرفة
الحقيقة، يبحث ويتقصى عما يجري في هذة البلاد "القارة"، والبريطانية
كيم لونغينوتو واحدة من هؤلاء. لقد اختارت منطقة أوتار براديش، شمال
الهند، كعينة من المجتمع الهندي، عينة صغيرة من قرية فقيرة، تعيش فيها
امرأة اسمها سامبات بال لا تشبه نساء الهند. شخصيتها النادرة، كانت
كافية لصنع فيلم وثائقي جيد هو
"ساري زهري" الفائز بجائزة افضل فيلم وثائقي مناصفة مع
"حنين إلى الضوء". وإذا كان بعض الممثلين الكبار في الأفلام
الروائية الطويلة يرفع الفيلم على أكتافه، أحياناً، فقد رفعت سامبات
الفيلم على أكتافها، كما رفعت على أكتافها هموم ومشاكل النساء في
قريتها. لقد قامت طوعاً بدور المنظم الإجتماعي ومحامي الدفاع، بل
حوّلت بيتها الطيني المتواضع الى مأوى لمن ليس لهن مأوى، بعد أن طردن
من بيوت أزواجهن أو هربن خوفاً من أن يقتلهن ذوي القربى، باسم "الدفاع
عن الشرف". ذلك أن قانون جرائم الشرف مازال سارياً هناك، وحق امتلاك
الرجل للمرأة ما برح عرفاً سائداً. لقد سجّلت لونغينوتو يوميات هذة
المرأة بكامراها، بعدما عقدت معها اتفاقاً غير مكتوب على ألاّ تتدخل
أبداً في أية حركة أو فعل من أفعالها ونشاطها الدائم. لقد نقلت من
خلال علاقة سامبات بالناس والسلطات، واقع الهند وكيف تعامل المرأة
فيه. وركزت سامبات، لا المخرجة، على النساء بوجه خاص. لقد رأت سامبات
فيهن نفسها، حين وجدت نفسها يوماً مع طفلها مرمية في الشارع من دون
مال أو طعام. اختبرت عذابات بنات جنسها فتطوعت للدفاع عنهن، مجاناً
ومن دون أي مقابل. أهم ما يظهره الشريط هو القوة الداخلية المدهشة
التي تمتلكها هذة المرأة، لدرجة تدفع من يشاهدها ويتابع نشاطها إلى
التساؤل عن مصدر هذه القوة والإحساس العالي بالعدالة والموقف الواضح
من كل ممارسة ظالمة. لم تخفِ المخرجة رغبتها في التركيز على هذة
الأسئلة ولكنها في ذات الوقت كانت حريصة على تقديم المشهد العام. لقد
أرادت رسم "بروفيل" خاص، على لوحة كبيرة، أو إذا أردتم على شاشة
كبيرة، تظهر تفاصيل المشهد الهندي وعمقه، فمضت مع "بطلتها" في رحلتها
اليومية مع المعذبات والأكثر إيلاماً في هذه الرحلة هو صمت النساء
المطبق. تجنّب فيلم "ساري زهري" المجانية وتضخيم الإحساس بالقهر عبر
الصراخ والعويل، فكان هادئاً وسلساً. دموع سامبات كانت أكثر التعابير
العاطفية حدة. فالمرأة "الحديدية" كانت متحمسة وعاطفية، ولكنها صلبة
كالصخر في دفاعها عن المشتكيات اليها ظلماً، تقف وراءه أسباب كثيرة،
ولكثرتها تتساءل عن معنى الحياة نفسها وقسوتها. ربما أجمل ما في عمل
كيم لونغينوتو هو قدرتها على توصيل مفعول صمت المظلومات الى المشاهد.
فصمت المشتكيات الى سامبات يعبًر أحسن من ألف جملة، وربما لهذا السبب
اقتبست كيم عبارة هندية من الموروث الشعري الشعبي، وكتبتها في بداية
الشريط، تقول ما معناه: "إن ضياع الكلمات فوق اللسان قد تكسر شيئاً ما
في القلب."
استطاع فيلم "ساري زهري" أن يوصّل هذا الإحساس العالي بمعنى فقدان
الكلمات، وحاجة الضحية للسان فصيح، أكثر من أية وسيلة تعبيرية أخرى،
تحتاجها لحظة وقوفها أمام القاضي ـ لقد خبرت سامبات بال هذا الإحساس
والحاجة للبوح، فكانت لسانهن وصوتهن العالي، مؤقتا، تطالب لهن
بالتعليم، واكتساب القدرة على التعبير عن الذات بصوت يصل الى الآخر من
دون خوف أو وجل. فزمن تقسيم البشر الى خانات دائمة لا بد من أن ينتهي
يوماً وسامبات بال مستمرة في مسعاها هذا من دون كلل، وجاهزة لليوم
الذي ترتدي فيه ومن معها من نساء القرية الساري الزهري على
الدوام.
قيس قاسم