مهرجان الفيلم الدولي العاشر بمراكش: سحر السينما والنجوم والمدينة
هوفيك حبشيان
2010.12.07 - كانوا الآف المشاهدين مساء السبت الفائت في استقبال كريستوف لامبير في ساحة جامع الفنا المراكشية. كباراً وصغاراً، أطفالاً ونساء، تابعوا على ضوء القمر، "غرايستوك، اسطورة طرزان"، الذي عُرض امام حشد اعتاد، منذ بضع سنوات خلت، المجيء الى هذا القلب النابض للمدينة القرميدية، لمشاهدة شريط على شاشة ضخمة نُصبت بالقرب من باعة البهارات والأعشاب والفواكه المجففة ومخضبات الحناء، حيث الحركة على مدى 24 ساعة. ولم تعد العروض التي تنظم في هذا المكان مجرد احتفالية سياحية ومراعاة "كبت" الجمهور المحلي وتلبية رغبات مَن لا يملك منهم بطاقة دخول الى قصر المؤتمرات، بل هي عبور إلزامي للسينمائي الذي يريد الخروج من جدران الفنادق الفخمة الى الشارع المراكشي حيث الدفء الإنساني، علماً أن ساحة جامع الفنا كانت في الماضي البعيد مكاناً لتنفيذ أحكام الإعدام العلني على المجرمين.
هكذا بدا المشهد غداة افتتاح الدورة العاشرة من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش (3 - 11 ديسمبر) الذي يحتفي هذا العام بعيد انطلاقه العاشر. عقد كامل مرّ منذ أن أسس المنتج الفرنسي الكبير دانييل توسكان دو بلانتييه هذا الحدث وتبناه الملك محمد السادس وجند في سبيله موازنة كبيرة. ودو بلانتييه يُعاد اليه الاعتبار هذا العام من خلال عرض فيلم عن سيرته، يبيّن الى أي حدّ وهب حياته للسينما، وتورط في جميع الحركات السينمائية الناشئة في فرنسا وأوروبا، الأمر الذي أتاح له تسلم رئاسة شركة "غومون" العريقة، فكان أول من حاول ادخال السينما "الصعبة" الى انتاجات هذه المؤسسة التي لم تكن من قبل تخصص الموازنات لأفلام "الفن والتجربة"، متبنياً بذلك افكار السينمائي الإيطالي روبرتو روسيلليني، بعدما وجد فيه مثله الأعلى وأبه الروحي. ومن العام 1975 الى العام 1985، اعتبر صاحب الفضل في انتاج أكثر من مئة شريط، حمل بعضها توقيع بيرغمن وبيالا وبروسون وسكولا، وكان بعضها الآخر من إخراج فاسبيندر، هيرتزوغ أو فيلليني. اختلف فهم بلانتييه لمهنة المنتج عن المفهوم الهوليوودي، كونه كان يمنح الكثير من الحرية للمبدع، وكان يشاركه أيضاً في مسؤولية وجود الفيلم، وهذا ما يبينه هذا الشريط الوثائقي الذي أخرجته الفرنسية ايزابيل بارتيو بييري وعنونته "توسكان".
تكريمات
اذاً لم يقرر مهرجان مراكش توجيه تحية مباشرة الى الأب المؤسس في العيد العاشر للمهرجان، بل توّج التكريم بعرض فيلم عنه. والتكريمات على أية حال كثيرة في هذه الدورة. هناك تكريم الممثل المغربي العربي الدغمي الذي توفي عام 1994، وتحيات الى كل من الممثل الأميركي هارفي كايتل والمخرج الياباني كيوشي كوروساوا والمخرج المغربي محمد عبد الرحمن طازي والممثل الأميركي جايمس كان، الذي اضطلع بأدوار في أفلام صارت من كلاسيكيات السينما، مثل شخصية سوني كورليوني في "العراب" لفرانسيس فورد كوبولا. والأخير كان هنا مساء الأحد لتقديم فيلمه "تيترو" خلال الحفل نفسه الذي كرم فيه جايمس كان، ونتج من هذا اللقاء بين الرجلين لحظة وجدانية زاخرة بالعاطفة، اذ قال كوبولا للحضور: "رافقني كان في المرحلة الأكثر إنتاجاً من حياتي، ثم رافقني في المرحلة الأكثر تراجيدية، ومن ثم رافقني في المرحلة الأكثر تغييراً"، قبل أن يتابدلا الكلمات الرقيقة والاطراءات. فكان تصفيق صمّ الآذان. تكرّر التصفيق ذاته في محطات أخرى من كلامهما. والتصفيق هنا موقف وتعبير، أحياناً نفهم لماذا يأتي وأحياناً أخرى يبقى طيّ السر.
ولا يكتفي كوبولا بهذا القدر من التواصل مع الجمهور، اذ هناك ايضاً له لقاء مع المغاربة في إطار ما يعرف عنه المهرجان بـ"الحديث مع...". المشهد بات مألوفاً. مخرج مخضرم يجلس أمام حفنة من عشاق السينما وطلاب معاهد السمعي البصري ليمنحهم من باعه الطويل في مجال التصوير وادارة الممثل وكتابة النص واختيار الموسيقى وأماكن عملية التقاط المشاهد. كان مهرجان كانّ سباقاً في تكريس هذه العادة، واليوم كثر يقلدونه، وأحياناً بنتائج تفوق نتائج كانّ، مثلما كانت الحال قبل سنتين مع "درس السينما" الخاص بمارتن سكورسيزي الذي كان من تنشيط ميشال سيمان. ومراكش الذي يولي اهتماماً خاصاً بالإستعادات، يأتي ايضاً بالأخوين المخرجين لوك وجان بيار داردين والمخرج الكوري لي تشانغ دونغ، كي يقدموا "محاضرة اختصاصية" (Masterclass) في كيفية صناعة الفيلم.
في مهرجان قائم قبل أي شيء آخر على التنوع والتوزيع الملائم غير المجحف بين الفنّ والإستعراض والبهرجة، اتخذ تكريم السينما الفرنسية المكانة الوجدانية الأهم في الدورة الحالية. هذه السينما التي انتظر مراكش عشر دورات قبل تكريمها، حلتّ ضيفاً عزيزاً على المدينة القرميدية بـ75 فيلماً و50 ضيفاً مشوا على السجادة الحمراء المفضية الى مسرح قصر المؤتمرات الذي كاد يلبس ألوان العلم الفرنسي في تلك الأمسية التاريخية. ومن أفضل من مارتن سكورسيزي للتكلم عن هذه السينما التي اضطلعت بدور أساسي في تكوينه الفكري، ولا سيما تلك السينما التي ولدت في أواخر الخمسينات من القرن الماضي في فرنسا ضمن حركة سميت لاحقاً بـ"الموجة الجديدة". وكانت لسكورسيزي كلمة في تلك السينما وأبرز محطاتها قبل أن يسلم جائزة فخرية خاصة الى كوستا غافراس وكاترين دونوف التي بدت مثل نجمة ساطعة في ليل مراكش بأناقتها وحضورها الأيقوني.
يولد مراكش من هذا الخليط الفرنكو-مغربي العجيب الذي، شئنا أم أبينا، يمنحه هوية خاصة. ثمة اهتمام دفين غير معلن بالنجوم و"الضيوف الكرام"، وهذا الأسلوب في بسط السجاد الأحمر تحت أقدام المشاهير، مستنسخ طبعاً من مهرجانات عالمية كبيرة مثل "كان" و"البندقية".
طبعاً الأفلام الكبيرة غير متوافرة بكثرة، وإن وجدت فهي تذهب الى مهرجانات الفئة "أ". ولكن بفضل موازنته المحترمة (7 مليون أورو تقريباً) وعلاقاته الدولية الواسعة، يُعقد مهرجان مراكش ضمن معايير عالمية. وأصبح معلوماً ان الجهات الرسمية تدعم وجود هذه المهرجانات لأنه لم يعد أمراً مقبولاً لأي عاصمة أو مدينة مهمة ألاً يكون لها مهرجان يُمنح من خلاله الإنطباع بأن الثقافة والفن والاشياء الجميلة المرتبطة بهما موجودة في هذه الرقعة الجغرافية. هذا كله لا يلغي المصادفات الممتعة واللقاءات الحقيقية. والسينما تبقى أقوى من كل ما يحيطها من بيروقراطيات بليدة.
المدينة والأفلام
هناك ايضاً المدينة الساحرة التي تجعل كثيرين لا يترددون في المجيء الى مراكش. من الدورة الأولى اراد المهرجان رفع سقف الطموحات، فأتى بشارلوت رامبلينغ رئيسة للجنة التحكيم. وتعاقبت الأسماء الكبيرة على هذا المنصب، من رومان بولانسكي الى آلان باركر مروراً بميلوش فورمان. هذه المدينة هي التي تمنح المهرجان هوية لا تجعلها مجرّد نتاج العولمة الثقافية. ولأن كل مهرجان مهّم يجب ان يقوم في مدينة مهمّة، فالمهرجان يدين بالكثير الى المدينة القرميدية. هي التي تجذب اليها سكورسيزي عاماً بعد عام، وهي التي تجذب هذا الكمّ من الصحافيين الفرنسيين الى مكان يملك فيه المشاهير فيللات باهظة الثمن. والفرنسيون في مراكش ليسوا زواراً فحسب، بل يعملون في الكواليس طوال أشهر قبل انطلاق أي دورة. هم كثر في منح التعليمات لزملائهم المغاربة، بدءاً من مديرته الفرنسية ميليتّا توسكان دو بلانتييه (زوجة دانيال) وصولاً الى المدير الفني برونو بارد، وهذا ما "يفرنس" المهرجان، أقله في محتوى البرنامج، علماً انه ليس من فيلم فرنسي واحد في المسابقة الرسمية هذا العام. "اليد الفرنسية" تقتصر على ادارة الشؤون التنظيمية والعلاقات الدولية، وأشياء أخرى تدور في كواليس المهرجان لها علاقة بسياسة فرنسا الخارجية، لكن لا يجب أن ننسى أن هناك رجلاً آخر يدعى نور الدين الصايل، وهو نائب الرئيس المنتدب للمهرجان (بالمشاركة مع فيصل العرايشي)، يدير اللعبة من جانبه بكف مغربية.
في ختام تسعة أيام من عرس سينمائي سيكون على بطل "العلاقات الخطرة"، جون مالكوفيتش، (وبقية الأعضاء في اللجنة: فوزي بن سعيدي، غابرييل برن، ماغي تشونغ، غاييل غارثيا بيرنال، بونوا جاكو، ايفا منديس، ريكاردو سكامارتسيو، يسرا) منح الجائزة للفيلم الذي سيراه الاجدر لنيل الـ"نجمة الذهبية"، وذلك من بين 15 فيلماً تتنافس على هذه الجائزة وثلاث أخرى: واحدة تمنح باسم لجنة التحكيم واثنتان لأفضل ممثل وممثلة. وكما جرت العادة، هناك أفلام هي الأولى لأصحابها في المسابقة الرسمية. ظاهرياً، تبدو القائمة متنوعة ولعل ما يزيدها غنىً هو أنها تضم 15 فيلماً من 15 بلداً مختلفاً. أفلام تشاكس النموذج الأوحد الذي تفرضه هوليوود على العالم من خلال جبروتها وتقول أن هناك فعلاً ما يستحق أن يصور ويشاهد عن حيوات ناس من بلدان أخرى وثقافات أخرى تعاني تهميش الصورة. هناك فيلم مغربي واحد في المسابقة هو "أيام الوهم" لطلال سلهامي. وهذا الامر يشير إلى أنه على الرغم من الحراك السينمائي الذي يجري الحديث عنه حالياً في المغرب، لم يكن هناك أفلام مغربية جاهزة للعرض في هذا المهرجان. طبعاً هذا الغياب هو الذي يصيب مجمل السينما العربية، إذ لا أفلام في مراكش من منطقتنا.
الإقبال متفاوت بين فيلم وآخر. وفي حين لا يستقطب بعض الأفلام الكثير من المشاهدين على الرغم من أهميته، فإن اعمالاً اخرى تشهد إقبالاً جماهيرياً كبيراً. هناك صعوبة في إيجاد مشاهدين عرب لأفلام لا تمتلك مواصفات تجارية. لكن المهرجان يغذي القلوب اليائسة والمتعبة في بلد مثل المغرب، يغذيها دفئاً وحلماً وحباً للسينما، خصوصاً في هذه المنطقة من العالم حيث تبدو الآفاق مسدودة في وجه اجيال عدة لا تفكّر الاّ بالرحيل الى بلدان الغرب البعيدة ــ القريبة. لكن حدثاً مثل مراكش دليل على شيء من النهضة في هذه البلاد. وربما على تغيير تدريجي يدخل الى المغرب من باب احد اكبر الفنون في هذا العصر!