جعفر باناهي محكوم بالسجن المؤبّد!
2010.12.20 - لم يشهد تاريخ السينما تنكيلاً بمخرج سينمائي يعادل ذاك
الذي أُنزل بالسينمائي الإيراني جعفر باناهي قبل أيام. ست سنوات من السجن وعشرون
عاماً من المنع من ممارسة السينما والكتابة وإجراء المقابلات ومغادرة
البلاد هي في الواقع حكم بالسجن المؤبّد، إن لم نقل بالإعدام. إذ ما
الذي يعنيه مصادرة أدوات الفنّان وكتم صوته وتكبيل حريته غير إعلان
موته البطيء؟! فالحكم أشبه بحكم صادر عن المحاكم العرفية والعقاب أقرب
بقسوته إلى ما كان يٌمارس في القرون الوسطى. كلّ هذا والفيلم الذي كان
في صدد التحضير له مازال مشروعاً على ورق أو ربّما فكرة تجول في رأسه
بانتظار أن تختمر. فماذا كان سيحلّ به إذاً لو أنه صنع ذلك
الفيلم-التهمة بالفعل؟ هل كانت ستُقطع يده التي شغّلت الكاميرا وتُفقأ
عينه التي شكّلت المشهد ويُقطع لسانه الذي نطق بكلمتي "أكشن" و"كات"؟
هذه الأفكار تحديداً هي ما أرادت سلطة محمود أحمدي نجاد أن تتسلّل إلى
عقول الآخرين لترهبها قبل أن تجرؤ على التفكير حتّى، فجعلت من باناهي
الدرس والعبرة لمن اعتبر. وبقدر ما يزداد العقاب قسوة بقدر ما يعبّر
عن خوف ورعب السجّان وهذه حال السلطة الحاكمة في إيران اليوم. فقد
تمكّنت الأخيرة خلال الإنتخابات الرئاسية في صيف 2009 من إبعاد عدسات
الصحافة والمصوّرين من خارج البلاد. وكانت مطمئنة إلى توجّه سينمائيي
الداخل، منذ حكم الشاه، إلى مقاربات متخفّية في حكايات الأطفال، تحتمل
الكثير من التأويلات الإجتماعية والسياسية والدينية، ولكنّها في
الظاهر ليست سياسية. ولكن أن يفكّر سينمائي (باناهي) بصنع فيلم عن
حوادث ذلك الصيف المشؤوم، وأن يزور قبر ندى سلطان آغا (تموز/يوليو
2009) شهيدة المعارضة والثورة الخضراء، وأن يطلّ من على منصّة مهرجان
سينمائي عالمي (مونتريال في أيلول/سبتمبر2009) بوشاحه الأخضر الدالّ
على موقفه المساند للمعارضة، فذلك ما لا طاقة لملالي الجمهورية الإسلامية
على احتماله ولا حاجة لهم به. فأن تكون إيران في عيون الآخر ذلك البلد
الذي ينتج مخرجوه سينما صغيرة رائعة، إلى جانب كونها قوّة نووية
مستقبلية بالطبع ولاعباً سياسياً اساسياً في المنطقة وربما العالم، لا
يعني شيئاً من قريب أو بعيد لدى السلطات في البلاد، التي قرأت بإمعان
هذه المرة الرسائل (الواضحة) التي مرّرها باناهي وكثيرون غيره. هكذا
وبعد أشهر قليلة، بدأ تحرّك السلطة الفعلي والممنهج ضد باناهي، فمُنع
بداية من مغادرة البلاد لحضور مهرجان برلين في شباط 2010، ومن ثمّ
اعتقل مع أفراد عائلته وضيوفه (من ببينهم المخرج محمود رسولوف الذي
حكم عليه أيضاً بالسجن لست سنوات) عندما داهمت الشرطة منزله (في الأول
من آذار/مارس) وأصدرت السلطات الإيرانية تصريحها الشهير المثير للضحك
والسخرية في آن معاً
حيث قالت إن اعتقال باناهي جاء نتيجة للاشتباه بارتكابه "جرائم قتل"،
يجري التحقيق فيها، قبل أن يكشف وزير الثقافة الإيراني منتصف
نيسان/ابريل أن سبب اعتقاله "انه كان يصنع فيلماً ضد النظام عن
الأحداث التي تلت الإنتخابات". مكث السينمائي في السجن لأكثر من شهرين
ولم يخرج إلا في 25 أيار/مايو بعد أسبوع من إعلانه الإضراب عن الطعام
(احتجاجاً على سوء معاملته وتهديد عائلته) وبكفالة بلغت قيمتها مئتي
ألف دولار أميركي. في الفترة نفسها، دُعي للمشاركة في لجنة تحكيم
مهرجان كان السينمائي وحين غاب عنه قسراً، وضعت إدارة المهرجان في
الإفتتاح كرسياً شاغراً احتجاجاً على ما يتعرّض له من مهانة وظلم.
وترافق ذلك مع حملة احتجاجية قادها سينمائيون من حول العالم (في
مقدّمهم مارتن سكورسيزي-الذي جدّد احتجاجه قبل ايام- وفرانسيس فورد كوبولا وستيفن
سبيلبرغ والأخوان كوين ومايكل مور وكين لوتش والأخوان داردن وآخرون
فضلاً عن مواطنه عباس كياروستامي الذي وجّه رسالة مفتوحة إلى السلطات الإيرانية ناشدها فيها
إطلاق سراح باناهي) ونقاد وهيئات سينمائية، تجدّد بعضها قبل ايام مع
صدور حكم السجن والمنع. وفي هذا الإطار الإجتجاجي، افتتح مهرجان
ابوظبي السينمائي دورته الرابعة بفيلم باناهي القصير "الأكورديون"
كـ"مبادرة لدعم حرية التعبير والإنفتاح".
في حوار أدلى به لوكالة "أ.ف.ب." الفرنسية في آب/أغسطس الفائت، قال
باناهي: "عندما لا يصنع السينمائي أفلاماً فإن ذلك بمثابة السجن له.
حتى عندما يُطلق سراحه من السجن الصغير، فإنه يجد نفسه تائهاً في سجن
أكبر." تترجم تلك الكلمات بامتياز المصير الذي وصل إليه اليوم، سجيناً
في الزنزانتين الصغرى والكبرى. فهل كان يستشعر ما هو مقبل
عليه؟
تجدر الإشارة إلى أن سينما "متروبوليس" اللبنانية تعتزم توجيه تحية إلى
باناهي خلال شهر كانون الثاني/يناير 2011 من ضمن استعادة لأعمال
السينمائي عباس كياروستامي بالتزامن مع إطلاق فيلمه "نسخة مصدّقة" (
Certified Copy ) في بيروت.
نبذة عن المخرج
ينتمي جعفر باناهي إلى السينما الإيرانية الجديدة التي برزت بعد
الثورة. بدأ مسيرته السينمائية بأفلام 8 ملم قصيرة وفيلم وثائقي أنجزه
خلال فترة خدمته العسكرية في الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988).
بعدها درس السينما في طهران وعمل مساعداً لعباس كياروستامي في فيلمه
"بين أغصان الزيتون" (1994)، قبل أن يكتب الأخير له سيناريو فيلمه
الأول "البالون الأبيض" (1995) الذي فاز بجائزة "الكاميرا الذهب"
للعمل الأول في مهرجان كان السينمائي. وبعد إعلانه المرشّح الرسمي
لإيران لجوائز الأوسكار 1997، أعلن وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي عن
سحبه. قدّم بعد عامين
"المرآة" الذي فاز في مهرجانات لوكارنو وسنغافورة واسطنبول. وفي العام
2000 أنجز "الدائرة" أنضج افلامه وأجرأها عن يوم في حياة ست نساء في
طهران. حاز الفيلم الأسد الذهب في مهرجان البندقية السينمائي. بعد
ثلاث سنوات، جدّد تعاونه مع كياروستامي من خلال سيناريو فيلمه الرابع
"ذهب قرمزي" (
Crimson Gold ) الذي نال جائزة تحكيم "نظرة ما" في مهرجان كان
السينمائي ولكنه لم يعرض في الصالات الإيرانية. "تسلل" كان فيلمه
الأخير الذي عرض في مهرجان برلين 2006 ونال الدب
الفضة.
ريما المسمار