عن مهرجان كليرمون- فيرّان الـ33
مملكة الفيلم القصير
كليرمون فيران ـــ هوفيك حبشيان
2011.02.07 - حتى من أجل لحظات سينمائية قليلة ولكن معبرّة مثل التي اكتشفناها قبل عامين في "أماكن مقدّسة" للمخرج الفرنسي الكبير آلان كافالييه، كان السفر الى كليرمون ــ فيران (وسط فرنسا) يستحق العناء: ماسكاً في يده كاميرا رقمية من مثل التي توجد في كل بيت تقريباً، يدخل المخرج الفرنسي الذي سبق له أن أدار آلان دولون الى حمام الذكور في إحدى الحانات الباريسية التي يرتادها، ثم يروح يضغظ على كبسة "الزوم" في اتجاه أحد المراحيض الموجودة في الحمام، على نحو تحتل معه مساحة المرحاض البيضاء الشاشة برمتها، ويصبح الجميع في الصالة، رجالاً كانوا أم نساء، جالسين في قلب هذا المرحاض. مصوّباً آلة التصوير للحظات طويلة على البورسيلين الأبيض، يتكلم كافالييه عن أمه الراحلة لتوّها بصوته المندهش، وعن ذكريات طفولته أيضاً، وأمامنا لا شيء إلاّ صورة هذا المرحاض الذي يعتبره السينمائي البالغ من العمر 80 عاماً مكاناً مقدساً.
واذا كان كافالييه على هذا القدر من التجديد والإبتكار، نستطيع أن نقول الكلام عينه عن الكثير من الأفلام المعروضة في الدورة الـ33 من مهرجان كليرمون ـــ فيران الدولي للفيلم القصير. إنها حقاً دورة استثنائية بكل المعايير، اذ تجمع أعمالاً من كل أنحاء العالم، ومعظمها ذو مستوى تقني عالٍ جداً، وإن كانت الأفكار المطروحة تتفاوت أهميتها من شريط الى آخر. في خضمّ هذه الفورة للفيلم القصير، يصعب أن نحافظ على موضوعيتنا ونظرتنا النقدية. لدورته الجديدة، آلاف الأفلام أُرسلت الى إدارة المهرجان من مئة بلد مختلف، علماً أن العدد هذا تضاعف منذ خمس سنوات. لم يُختر منها في المحصلّة النهائية إلا 15 في المئة تقريباً في المسابقة الرسمية، تتراوح بين الفيديو المصنوع بـ"ليرتين" والـ35 ملم الأكثر ميلاً إلى استعراض طبقي. لكن الإدارة لا تفرّق بينهما إطلاقاً، والدليل أنها تضعهما في المسابقة عينها، لأن الإمكانات عرضة للتفاوض المادي، أما الخيال والأفكار وتقنيات السرد والدراما، فليست عرضة للمساومات أبداً. ولا بأس إذا ساهمت الثورة الرقمية في تشجيع البعض من غير الموهبين على الإمساك بالكاميرا والذهاب بها إلى حيث الأبواب المسدودة، فاذا لم يلّقنهم أعضاء لجنة التحكيم درساً، فالجمهور هو من يتولّى ذلك!
نحو 50 بلداً اذاً متمثل في هذه السوق التي هي الأكبر للفيلم القصير، حدّ أن كثيرين يعتبرون مهرجان كليرمون ـــ فيرّان بمنزلة "كان" للفيلم الذي لا يتعدى حجمه الزمني النصف ساعة كحدٍّ أقصى. 50 بلداً مع مشاركة خجولة للفيلم العربي، وأيضاً تمثيل ضعيف للأعمال الآتية من البلدان الشرقية وأميركا الشمالية.
هناك ايضاً لائحة الأفلام الفرنسية القصيرة المشاركة. 1500 فيلماً تم اقتراحها على لجنة الإختيار، لم يبقَ منها للعرض إلاّ حفنة. والملحوظ أن ثلث هذه الأفلام هو الخطوة الإخراجية الأولى لأصحابها، مع ميل مستجّد إلى ما هو خرافي وغرائبي وعلمي ــ خيالي لدى الشبّان الفرنسيين الداخلين مجال السينما (تأثير التسعينات عليهم لم يذهب سدى). الكثير من هذه الأفلام لم يلقَ أي دعم مادي، وصنع بدون أية موازنة...
وعلى الرغم من هذه العناية الدقيقة التي يحظى بها في كليرمون ـــ فيران، يبقى الفيلم القصير جنساً سينمائياً مهمّشاً، ولا يزال الى اليوم خارج دائرة اهتمام أصحاب القرار في التلفزيونات، باستثناء شاشتين فرنسيتين هما العملاق "كانال بلوس" والنخبوي "آرتي" اللتان تخصّصان حصصاً للفيلم القصير. ويقول كريستيان دينييه، أحد الذين يشكلون اللائحة الفرنسية، إن أغلب ما يعرض في المهرجان ليس موجهاً للجمهور العريض. لكن هذا لا يمنع الأفلام في ما بعد من أن تجد جمهورها المحتمل. وعليه، لا يزال الفيلم القصير مختبراً حقيقياً (ألم تكن الأفلام كلها قصيرة في بدايات السينما؟)، أشبه بحديقة سريّة للسينما التقليدية التي تثقل كاهلها في معظم الأحيان الإرتباطات الإقتصادية والإلتزامات التجارية (الإيرادات دائماً وأبداً). الفيلم القصير هو السينما التي قد تصنع في المستقبل القريب، لكنه ليس فقط المستقبل إنما أيضاً الحاضر والماضي. مع هذا، يصعب عليه أن يكون هدفاً وفناً قائماً بذاته لأن معظم السينمائيين لا يستخدمونه إلا من أجل العبور منه إلى الفيلم الطويل. لكن تجارب من مثل التي يقترحها آلان كافالييه تقول أن القصير موقف مختلف عن كيفية صنع فيلم، الذي، الى اليوم، ومثل أي عمل فني آخر، لم يتحقّق الإجماع في شأنه. هذه التجارب تؤكد النظرية الآتية: كان على الكثير من الأفلام الطويلة أن تلد قصيرة!
كليرمون مناسبة لندرك كم يحتمل هذا الفنّ الطالح والصالح. لم يتوانَ المهرجان، على مدار دوراته الـ33، عن تقديم كل ما يصدم حساسية المُشاهد البليد الذي لا يمنعه كسله من الإبحار في عالم الصورة التي تتحكم اليوم بكل شيء تقريباً، بحيث من يملكها يملك السلطة. هناك أسرار كبيرة تنام عليها الصورة، وهذا ما يحاول فهمه خصوصاً المخرجون المشاركون في قسم "مختبر" من خلال تقنيات تفكيكية تخرج عما ألفناه في الأفلام التقليدية. مخيف عدد الأفلام الذي أرسل الى المهرجان: ستة آلاف فيلم، تم قبول أقل من واحد في المئة منها. هناك أيضاً أفلام تقف على حافة التجريب، لكن لا لغة سينمائية بل ترابط مشهدي يعمل وفق منطق التشابك والتصادم.
أفلام كثيرة لسينمائيين ذهبوا الى مهرجانات كبيرة مثل كانّ، نالت هنا جائزة الجمهور: مايك لي، توماس فينتربرغ، جان ــ بيار جونيه... كلهم صفّق لهم المشاهدون، في إحدى الدورات السابقة. هذا الجمهور الذي يأتي إلى المهرجان بأعداد هائلة مشكلاً الضمانة الكبرى لحدث لما كان أبصر النور من دون دعم السكان المحليين له. لا شكّ في أن المجال لا يسمح هنا حتى بتعداد كافة اقسام المهرجان. ولا القدرة على تحمّل هذا القدر من الصّور المخرّبة والمتمرّدة التي تبقى صالحة من بداية الحدث الى نهايته. وعلى الرغم من أهمية الأفلام المتسابقة لنيل جائزة الـ"فيرسانغيتوريكس" (3500 أورو) التي تمنحها لجنة تحكيم مؤلفة من سينمائيين على وجه الخصوص، يصعب على المتابع ان يغوص فيها، وينسى مثلاً أن هنالك في الوقت نفسه عروضاً أخرى على 14 شاشة من شاشات هذه المدينة ذات الإيقاع الهادىء. وكيف يتجاهل أيضاً الندوات واللقاءات واليومية...
بعد 33 عاماً من الحضور المتألق والنجاح التصاعدي، لم يعد هناك أدنى شكّ في أن مهرجان كليرمون- فيرّان أصبح مرجعاً للفيلم القصير. حققت هذه التظاهرة السينمائية ما أخفقت في إنجازه شاشاتنا الصغيرة (حجماً وقيمة!)، أي منح الفيلم القصير فرصة في أن يكون له منبراً لمخاطبة جمهوره والتواصل معه، شأنه شأن الفيلم الطويل. والأهم أن هذا المهرجان ساهم إلى حدّ كبير في إخراج الفيلم القصير من عباءة الفيلم الطويل، الذي يملك مهرجاناته ونجومه وشاشاته وموزعيه وجمهوره الذي غالباً ما يعتبر القصير شيئاً تجريبياً هو وسيلة أكثر من كونه غاية. كليرمون ــ فيرّان، مع غيره من التظاهرات المهداة للفيلم القصير، عمل على إثبات عكس ذلك، وأحياناً ألحّ على فكرة أنه لا ينقص القصير شيئاً كي يصبح طويلاً، بل انه ولد كذلك وهذا خياره!
تاريخ
اليوم أصبحت هذه المدينة مشهورة بمهرجانها. وكثر من خارج فرنسا طبعاً يعتقدون أن المدينة هي التي تحمل إسم المهرجان. في طبيعة الحال، لم يبلغ المهرجان هذا الصيت هكذا، وبسحر ساحر. لم تأتِ الأشياء إليه على طبق من فضّة. فمنذ أواخر السبعينات، نظمت الدائرة السينمائية الجامعية في كليرمون فيرّان أسابيع مخصصة للأفلام القصيرة. بسرعة امتلأت الصالات وكتب للمبادرة نجاح ساحق. وبسرعة قبض القيمون على الفرصة. وكان ما كان. ثم كانت الرواية التي نعرفها. أُنشئ ما يُعرف بجمعية "أنقذوا الفيلم القصير" في 4 آب 1981 من أجل تشجيع إنشاء تظاهرة تنحصر فعالياتها بالفيلم القصير، المُستبعد عن عشاق السينما، لألف سبب وسبب. لكن المهرجان بالشكل الذي هو عليه اليوم، ولد عام 1982 تحديداً. أما أول سوق للفيلم القصير خاصة بالمحترفين فأبصرت النور عام 1986 مانحة كليرمون ــ فيرّان بعداً اقتصادياً. لكن كان ينبغي انتظار عام 1988 كي يكتسب المهرجان صفة العالمية ويتخطى إطاره المحلي الضيّق: مهرجان المدينة الذي لا يرتاده إلاّ الطاعنين في السن والباطلين عن العمل. منذ دخوله نادي الكبار، كرّت سبحة الإنجازات القوية، وشهدت المدينة زحفاً بشرياً لافتاً من كل بلدان العالم، من دون استثناء. مذاك، أخذت الأرقام المرتبطة بالمهرحان بالتّضخم عاماً بعد عام. فمن 28000 مشاهد في العام 1989، أصبح العدد أكثر من مئة ألف في العام 1995. والحدث الذي كان يعتمد على عدد قليل من المتطوعين، أصبح حالياً مؤسسة يعمل فيها ما لا يقل عن 20 شخصاً على مدار السنة.
لكن، في الواقع، عندما انطلق اسبوع الأفلام القصيرة عام 1979، قلائل راهنوا على الحجم الذي سيكون له في ما بعد. لم تكن ادارة تملك فكرة واضحة إلى أين كانت تريد التوجه ولا كيف. بعض الإرتجال كان ضرورياً والقليل من الشغف دفع بالأمور الى الأمام. وفي العام 1980، خلال الأسبوع الثاني، كان يمكننا أن نقرأ في الكتالوغ: "الفيلم القصير لا يتبع المعايير. يُنتج وينشر على نحو مختلف ولأهداف مختلفة: تجربة للفيلم الطويل، أداة سياسية، تجريب أنواع كتابية وتقنيات جديدة... وإذا كان بداية السينما، فهو أيضاً مستقبلها: خيال، حركة، تجربة، وثائقي...".
ثم، في العام 1995، ولمناسبة مئوية ولادة السينما، نظم المهرجان عرضاً استذكارياً عنوانه "قرن من الأفلام القصيرة" سمح بمشاهدة 100 فيلم قصير كان لها تأثير بالغ في تاريخ السينما. وجاء في كتيب البرنامج: "كان ممكناً تنظيم عروض عدة لمئة فيلم شيّق. واجهنا التنوع الكثيف وجودة الإنتاج، فوجئنا بعدد الأفلام القليلة الآتية من سينيفيلية دولية. إنه دليل على أن اهتمام النقاد والمؤرخين يغادر سريعاً مجال الأفلام القصيرة لينتقل الى الأفلام الطويلة".
اليوم، على الرغم من كل شيء، لا يزال الفيلم القصير، المبني أحياناً على عوالم بصرية خاطفة للحواس ولغة سينمائية أكثر ذكاء وابتكاراً من نظيره الطويل، هامشياً وخارج السرب والسيستيم. وهذا التهميش سببه الظروف المتراكمة، ويتحمل مسؤوليته المتفرج غير الفضوليّ، وأيضاً المنتج والموزع والمخرج الذي ما ان صعد الى مرتبة "الروائي الطويل"، حتى امتنع عن العودة إلى القصير، علماً أن أهمية الفيلم لا تقاس بالطول. قلائل هم السينمائيون الذين عادوا الى الفيلم القصير بعد أن كرّسوا مسارهم للطويل. آخرون مثل جان ــ بيار جونيه ("خطبة يوم أحد طويل"، 2004) أنجزوا أفلاماً قصيرة فقط لضرورات المهنة، ولأنه، بحسب اعترافه، "كان يريد دخول مجال السينما". لكن فيلمه البديع "حصينة العاصفة الأخيرة" ظلّ في البال، رغم ان مسار جونيه سلك مذاك اتجاهاً مختلفاً. وعن ظروف إنجاز مشروعه هذا، يقول جونيه كلاماً معبراً الى مجلة "استديو" يعكس فعلاً سوء تقدير الفيلم القصير حتى من جانب صانعيه: "كان يكفي أن نملك دمى متحركة وكاميرا لإنجاز فيلم. إيجاد المال مشكلة مزيفة. نحن محظوظون جداً في فرنسا لأن هناك مؤسسات في الدولة تمنح المساعدات. يجب إذاً عدم التردد في ملاحقتها بالملفات والأفكار. وأنصح بتقديم الملف بطريقة استثنائية. تعلّمت كل شيء وحدي. لم أشأ أن أتعلم "وسائل الآخرين" في مدرسة. وبطبيعة الحال، تسبب لي ذلك ببعض المشكلات. فأذكر أنه من أجل "حصينة العاصفة الأخيرة" استأجرت كاميرا وفيلماً غير متجانسين. كنا جدداً في المجال. ونظراً إلى الفريق الصغير، كنت مضطراً إلى التفكير في كل شيء: الإخراج، الإنتاج، التمثيل، الديكور... أفضل مدرسة تكمن في فعل الأمور بنفسك. بعدئذٍ، تكتشف أن هناك أشخاصاً أفضل منك في الأمور التي كنت تنجزها وحدك. كان هذا الفيلم سيكون طويلاً لو كنا أذكياء، ولكننا كنا حمقى في تلك المرحلة. وأفقدنا ذلك الوقت. ولكن بفضل فيلم قصير، تمكنت من إنجاز أول عمل مهني لي، وكان كليباً لجوليان كلير. جعلتني الأفلام القصيرة أنجز كليباً، والكليب دفعني نحو الإعلانات. كل هذه الأمور أشبه بدرجات للوصول الى الفيلم الطويل".