مهرجان تيسالونيك للفيلم الوثائقي
العالم من زاوية أخرى
هوفيك حبشيان
2011.03.27 - ما هو الوثائقي؟ كيف يتطور وفقاً
لإطار العرض او للمشاهدين؟ ما الحقيقة في السينما؟ كيف يمكن ان يترسخ
ادعاء الحقيقة في استراتيجية رسمية، وكيف تترسخ السلطة في هذا الادعاء
نفسه؟ كيف لنا ان نستخدم الوثائقي لندمر الحقيقة؟
مهرجان تيسالونيك (اليونان) للفيلم الوثائقي حاول من خلال دورة
غنية بأحدث الإنتاجات وأجودها أن يعيد الإعتبار إلى بعض من هذه
الأسئلة التي تؤرق صناع الفيلم الوثائقي. في مدينة هادئة، تذكّر كل
زاوية فيها بالتاريخ الانساني والإنجازات الكبرى، نُظم بين 12 و20
آذار/مارس ما يعتبره كثيرون ثاني أهم مهرجان للأفلام الوثائقية في
أوروبا بعد مهرجان أمستردام. عشرة أيام من المتابعة النهمة والإنتقال
من صالة إلى أخرى على وقع مشكلات العالم التي لا تنتهي، سواء أإتجهت
الأنظار إلى شمال القرية الكونية أو جنوبها، حيث الخيبات العاطفية
والمظالم الإنسانية والمؤامرات السياسية والدراسات العلمية فأخطار
البيئة والإرهاب والأمراض المستعصية. هذا كله يجيء في سلة واحدة،
كاملة متكاملة، يعيد تعريفك بالعالم من خلال الصورة، ونعني بالصورة
هنا: التجسيد.
يلجأ معظم الأفلام إلى مواضيع سقيمة حيناً وقاتمة أحياناً، ما يدعو
الى التأمل وطرح السؤال الآتي: هل عالمنا على هذا القدر من الإنحطاط
أم أن المآسي أكثر قدرة على إلهام السينمائيين؟ سؤال يبقى مفتوحاً
وربما يتراجع عنه المرء عندما يشاهد حماسة المخرجين في التهام العالم
وتثبيت أقدام الكاميرات أرضاً لالتقاط ما آلت اليه الطبيعة الآدمية في
القرن الحادي والعشرين. والقرن المذكور وصوره هو اصلاً شعار هذا
المهرجان الذي ينظّم للمرة الـ13 ويتفرع من مهرجان تيسالونيك الدولي
الذي احتفى قبل عامين بدورته الخمسين.
مئات الأفلام من عشرات الدول تُعرض يومياً بدءاً من الساعة الحادية
عشرة حتى منتصف الليل، في صالات تستقطب أعداداً كبيرة من المشاهدين.
المنظمون واضحون في أهدافهم: تعريف الجمهور اليوناني بما يدور في
العالم. ما دامت وسائل الإعلام لا تقدم خدمة حقيقية الى الناس،
وتتلاعب بالمعلومات وتسيسها وصولاً الى تغييبها الممنهج أحياناً وفق
أجندات سياسية، كان القرار عام 1999 بإنشاء هذا الموعد السنوي بغية
تثقيف المُشاهد اليوناني "كي يصبح ناخباً أفضل"، كما يقول مدير
المهرجان ديميتري ايبيديس.
هناك أقسام مختلفة تُدرج فيها الأفلام: نظرة الى العالم، حكايات
للسرد، تسجيل ذكريات، بورتريهات ورحلات إنسانية، حقوق مدنية، موسيقى،
قصص إفريقية وبانوراما يونانية. هذه الأقسام كافة تصبّ في رغبة واحدة:
الإطلاع على كل مستجد ومثير. لكن هذا لا يكفي. الوثائقي ليس
ريبورتاجاً تلفزيونياً. لا يبحث عن الموضوعية في نقل الخبر. فهناك في
الوثائقي نظرة مخرج يتطلعّ إلى العالم من خلال عين الكاميرا، وهذه
العين هو من يختار أين يضعها لنرى من خلالها العالم الذي يصوره. اذاً،
يعرف المبرمجون في تيسالونيك ان الموضوعية ورقة خاسرة وان الذاتية هي
التي في امكانها أن تحول تقريراً صحافياً الى عمل سينمائي، طبعاً اذا
كان أصلاً يمتلك مزايا سينمائية وفنية عالية.
أياً يكن، فالاقبال الذي يحظى به المهرجان منذ بضع دورات دليل على
أن ثمة رغبة في الإطلاع والمعرفة لدى المشاهد اليوناني المقيم في هذه
المدينة التي كانت مفتوحة ماضياً على شتى أنواع الغزوات الحضارية
والثقافية، وهي التي رسمت لها ملامح جديدة قديمة. هذه الغزوات حولتها
ايضاً الى "جسر" بين أوروبا والشرق. الأفلام المعروضة هنا حملت بعض
الإجابات عن الأسئلة التي يطرحها عموماً الفيلم الوثائقي الذي استطاع
في سنوات الألفين من القرن الحالي، ان يخرج من التهميش والدونية
اللذين فرضهما عليه الفيلم الروائي. "بعد أفلام عدة تحولت الى ظواهر
شعبية"، يقول أيبيديس، "لم يعد الوثائقي مرادفاً لشيء ممل يُعرض على
الشاشة. أراه بعكس ذلك، مسلياً. انت على تماس مع الواقع. وتتلقى
إحساساً أكبر بالعالم وبمكانة الإنسان فيه".
أيبيديس: الأزمات ملهمة أحياناً
أسس
ديمتري أيبيديس المهرجان قبل 13عاماً، وهو يعلن عن فخره به اليوم، لأن
الأمور تجري على ما يرام. قبل المهرجان، عمل هذا الرجل المعروف في
الأوساط السينمائية، في أشياء عدة، منها تعليم مادة السينما في كندا،
حيث أقام لسنوات وحيث نظمّ أيضاً مهرجاناً سينمائياً آخر. وكان أيضاً
مسؤولاً عن قسم موازٍ في مهرجان تيسالونيك الدولي. هذا المنصب تولاه
لـ13 عاماً قبل أن يعين مدير له منذ العام الفائت.
كان المهرجان أصغر حجماً عندما انطلق. اليوم، صار يضم ست صالات
وسوق فيلم يأتي اليها 60 موزعاً من حول العالم. في الدورة الاولى سجلت
شبابيك التذاكر حضور 8 آلاف مشاهد. أما في العام الماضي فبلغ عدد
المشاهدين 46 ألفاً. والأعداد تزداد عاماً بعد عام على وتيرة 20 في
المئة كل عام. يقول ايبيديس انه كان يريد من المهرجان أن يشكل مصدراً
موازياً للمعلومات. فاليونان بالنسبة اليه بلد محافظ وملتزم بالأخبار
الصادرة عن الصحف المحلية ومحطات التلفزة الرسمية. مصدر الأخبار فيها
من الوكالة الوطنية ووكالات الإعلام الأجنبية ذات الميول الأميركية.
يقول: "أنا لا أثق بهؤلاء. وما نقدمه نحن من أفلام في هذا المهرجان
يتناقض مع ما يقدمونه. رؤيتهم للعالم تتماشى مع السياسة، ونحن نعلم
السياسة ما هي عليه. على المعلومات أن تأتي من أصحاب الشأن، من مخرجين
يذهبون للبحث عن الواقع ويعملون أحياناً لسنوات كي يقترب طرحهم من
الحقيقة المجردة. الوثائقي هو تقمص للواقع. لا تمثيل فيه ولا
نصّ".
الأزمة الإقتصادية التي ضربت اليونان في مطلع العام الماضي وكادت
تسبب بانهياره، أثرت كثيراً على نشاط المهرجان. بدأت الإدارة بالتقشف
وبتقليص النفقات الناتجة مما لم تكن أولوية بالنسبة له. اليوم تدار
الموازنة بيد صارمة. أيبيديس: "نحمد الله اننا نحصل على مبلغ معين من
الإتحاد الأوروبي، ليس مبلغاً كافياً، لكنه يأتي في اطار دعم مستقر
وطويل الأمد. مع وزارة الثقافة، المسألة مختلفة. فالمهرجان بدأ منذ
بضعة أيام ولم نتلق بعد يورو واحداً. هذا هو الوضع".
في المقابل، ثمة من يؤكد أن السينما اليونانية تشهد حراكاً جديداً
منذ بعض الوقت، على الرغم من الأزمة الموجودة، أو ربما كنتيجة لها.
أيبيديس: "هذا ممكن. الأزمات ملهمة في الكثير من الأحيان. فالناس في
حاجة في ظروف مماثلة إلى الهروب من الواقع اليومي، والسينما أفضل
ملاذ".
فضلاً عن اهتمامه بكل شاردة وواردة في المهرجان، فإن أكثر ما يؤرق
أيبيديس هو الجمهور وكيفية جلبه إلى الصالات. اليونان بلد فيه الكثير
من الجزر الموزعة والمنفصلة عن بعضها البعض. الناس لا يأتون الى
تيسالونيك لأن التنقلات معقدة ومكلفة. يعترف أيبيديس انه كان يقول
دائماً في قرارة نفسه ما الفائدة من عرض فيلم لا تشاهده إلا حفنة من
الناس؟ فهناك الكثير من الجهد والمال في مقابل نتيجة متواضعة. يروي
قائلاً: "لم تكن هذه الحالة لترضيني. لم أكن سعيداً كوننا نتعب كل هذا
التعب لنستقطب في النهاية نحو 24 ألف مشاهد في عشرة أيام. كان حلمي أن
أورط التلفزيون في المهرجان، وكنت أريد أن يبقى المهرجان على حاله،
لكن مع عرض بعض الأعمال على الشاشة الصغيرة في الوقت نفسه. لم أتوقف
عن طرق أبواب محطات التلفزة اليونانية. الكلّ كان متحمساً، لكن ما من
أحد أخذ المبادرة. لم يرد أحد المجازفة. اليوم، بفضل التطور
التكنولوجي، اكتشفنا ان هناك وسيلة تمكننا من بث برنامجنا انطلاقاً من
هذا المكان الذي نحن فيه اليوم إلى مدن مختلفة. في هذه الدورة، كانت
تجربتنا الأولى مع هذا النوع الجديد من التواصل مع الجمهور، فالفيلم
المعروض هنا الساعة الثامنة مساء سيُعرض في جامعات تابعة لمدن مختلفة
وصولاً إلى نيكوسيا. ولا أعني فقط الفيلم بل كيفية تقديمه أيضاً في
البداية، ومن ثم النقاش الذي يجري بين الجمهور والمخرج. هذا يعني أننا
نتخطى حدود المدينة وإطارها، ومن يعلم، فقد نذهب إلى المدن اليونانية
كلها. إنها معجزة. هكذا أرى التكنولوجيا: مفيدة لحياة البشر. على حدّ
علمي، أعتقد اننا المهرجان الوحيد في العالم الذي يفعل هذا الشيء. كل
شيء صار ممكناً اليوم".
لوزنيتسا: السينما الروسية مقبرة أفكار
لوزنيتسا اكتشفناه في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي.
"يا فرحتي" هو الفيلم الذي أدخله إلى مسابقة المهرجان الأول في
العالم. لكن لهذا الأوكراني الفذّ ثمانية أفلام وثائقية. مهرجان
تيسالونيك أتاح لنا الفرصة لمشاهدتها والتعرف إلى "معلم صغير" في
كيفية وضع الكاميرا وتصوير الحياة اليومية في قرى تغمرها الثلوج أو في
المصانع والساحات العامة، ملتقطاً نبضها بحنين لا مثيل له. معظم
أعماله صامتة، لا تحضير مسبق فيها، ولا تعليق صوتي أو شرح لما نراه
أمامنا. لكن ثمة لغة كونية تغنيك عن الكلمة في أفلامه. الواقع لدى
لوزنيتسا ينطق ولا يبقى أمام المخرج الا التعبير عن هذا النطق بأدوات
سينمائية أبرزها المونتاج.
في لقائي وإياه في تيسالونيك، سألته عن الدافع الأساسي خلف انتقاله
من الوثائقي إلى الروائي، فجاء الجواب قاطعاً، اذ قال: "بالنسبة إلي،
ليس مهماً أن أصنف الفيلم مسبقاً. أن يكون وثائقياً أواً روائي أمر
ثانوي جداً في علاقتي بالسينما. الأمر سيان. لا مشكلة عندي إلا
المشكلة الأخلاقية. أما كيف أشيد الواقع، فلا فرق كبيراً. أستطيع ان
أقول لك إنني استخدمت ممثلين غير محترفين، وأحياناً كانوا أكثر جودة
في تمثيلهم ممن يمتهنون التمثيل. تستطيع أن تكتشف الكثير عن اي شخصية
من خلال كيف تتحرك وكيف تتسلل الى واقع مشهدي معين. حركتها تدل على
تاريخها الشخصي. انها توقيعها. درست اخراج الأفلام الروائية، وأريد أن
أقول لك أن فيلمي المقبل سيستند الى نصّ كتبته قبل عشر سنوات، أي قبل
أن أنجز معظم أفلامي الوثائقية. هذا الفيلم أريده مهما كلف الثمن،
لأنه سيأخذني الى مرتبة ثانية من مسألة التعقيد في صناعة الفيلم. أعمل
كحامل الاثقال الذي يزيد الأوزان أكثر فأكثر. في "يا فرحتي" كنا
ثلاثة: المصور، مهندس الصوت وأنا. أضبط الصورة دائماً. عندما نبدأ
التصوير لا أعود أعرف المصور، أفسر له ما أريد من خلال الكاميرا. يضع
الكاميرا على قاعدتها فأبدأ بمنحه التعليمات بغية الحصول على الكادر
الذي أريده. التشكيل في السينما أمر أساسي وينبغي أن نشعر به. انها
مسألة احساس".
درس لوزنيتسا في جامعة "فغيك" الشهيرة وهو لا يبدي اي استعداد
للإنقطاع عن هذا التراث والتحليق بجناحيه بلغة يبتكرها لنفسه، مؤكداً
ان هذه طريقته الخاصة بالعمل. "لا أرى انه من المهم أن أقفز إلى مكان
أعلى من اسلافي الروس. "قتل الأب" عبارة جميلة. وأهنىء فرويد عليها
وأتركه يقتل والده. أما أنا فلي علاقة قوية بوالدي (ضحك). نحن الروس،
قتلنا العديد من الأباء في تاريخنا الى درجة اننا اليوم نعيش في
القبور. السينما الروسية حالياً مقبرة أفكار. هناك سينمائيون روس
أنجزوا فيلمين أو ثلاثة، ثم انقطعت أخبارهم. في الثلاثينات، انطلقت
حركة من سينمائيين كانت لهم طريقة أخرى في السرد وتحريك الكاميرا.
أتكلم عن زمن ما قبل بارادجانوف. أمثال سيرغي بودوفكين وميكاييل روم.
بعضهم أنجز فيلمين ثم صار عاطلاً عن العمل ما رماه في حضن
البروباغندا. التاريخ السينمائي عندنا يعيد نفسه، اذا ان القضية نفسها
تكررت في الستينات، وكان ضحيتها هذه المرة أمثال بارادجانوف واسماء
أخرى لا أحد يتذكرها اليوم. ومنهم من ترك البلاد".
الواقع ووجهة النظر
ما قدمه تيسالونيك في هذه الدورة أفلام ترفع الستارة عن الواقع
الإنساني الملتبس شمالاً، جنوباً، شرقاً، وغرباً. مخرجو الحداثة الذين
يختارون الوثائقي اداة للتعبير عن الواقع الذي من حولهم، او الواقع
الذي "يستفزونه" في انجازاتهم المصورة، يجمعون على مبدأ ان ثمة فرقاً
بين ان نصوّر ريبورتاجاً للتلفزيون وان نختار سينما الحقيقة لسرد
الواقع بمرارته. هؤلاء متفقون على ان ما يقدمه التلفزيون ليس الا
تشويهاً للحقيقة، وان ما يلتقطه الوثائقي، ابن السينما الضال، هو اقرب
الى حياتنا. وتالياً، يعكس من نحن وماذا نريد فعلاً.
بهذه المفاهيم الحديثة، يكسر الوثائقيون الحاجز بين الواقع
والمتخيل، وينشقّون عن مبادىء ألفناها: حيث الكاميرا هناك وجهة نظر.
وحيث توجد وجهة نظر، هذا يعني اننا قبالة نسخة من نسخ الحقيقة. لكن
رغم انف هذه القواعد، لا يزال الصراع مستمراً بين شاشة صغيرة
باهتماماتها واخرى كبيرة من حيث رغبتها في قلب المقاييس. اذ ثمة شرخ
واضح بين وسيلتين مرئيتين، ولدت الاولى من احشاء الثانية، ورغم ذلك لا
يجمعهما الا مبدأ الاختلاف. أليس غودار هو الذي صرح ذات مرة في سياق
الكلام عن العلاقة الملتبسة التي تربط السينما كوسيلة تعبير،
بالتلفزيون كأداة لنقل المعلومات، ان "السينما تفبرك الذكريات، اما
التلفزيون فيفبرك النسيان"؟ نحن، إذاً، قبالة هذا النوع من الصراع
الوجودي بين الاعلام التلفزيوني والسينما الوثائقية. والارجح انه لن
ينتهي في ايامنا.
هنا، في جدول الاعمال المختارة، ثمة اكتشافات تستحّق المشاهدة.
اكتشافات تعبر بنا الى مناخات الحيوات البسيطة التي تولد منها
التعقيدات البشرية الكبرى، العصيّة على الفهم والتحليل والرصد، في
معظم الاحيان. هذه الافلام غنية بمدلولاتها الانسانية، وجوهرها
السينمائي المتماسك. وهي، خلافاً للافلام التسجيلية في العالم العربي
التي تعاني حصاراً ومشكلات لا تحصى، تنتزع الاعتراف بهويتها الفنية
وشخصيتها الاخراجية المتكاملة، من دون أن تكون خاضعة لعامل المقارنة
مع سينما تنبثق من أمكنة أخرى ومن رغبات أخرى أيضاً. الى ذلك، ثمة
قدرة فائقة لدى هذه الافلام على التحايل على كل التشريعات التي صدرت
منذ انجاز أول فيلم وثائقي، وغالباً ما يكون طموحها تحديث العقلية
التجارية السائدة والتصدي الى الافكار الجاهزة. هناك افلام تذهب ابعد
من استعراض الوقائع، ولها فلسفة خاصة جداً في اشهار الاسئلة.