عرضا في الدورة السابعة لتظاهرة "شاشات الواقع" في بيروت
"ظلال" و"الأئمة يذهبون إلى المدرسة": معاناة الداخل
والخارج
نديم جرجوره
2011.03.30 - بدت الدورة السابعة للتظاهرة
السينمائية "شاشات الواقع"، التي أُقيمت في بيروت بين
الواحد والعشرين والسابع والعشرين من آذار (مارس) 2011، فرصة مناسبة
للاطّلاع على جديد الإنتاجات الوثائقية المقبلة إلى صالة سينما
"متروبوليس" من أنحاء مختلفة من العالم. بدت غنيّة بعناوين مثيرة
للنقاش، علماً أن العناوين نفسها استلّت مواضيعها من مسائل مثيرة
للنقاش هي أيضاً: الذاكرة والفقدان والراهن المُصاب بألف علّة ومأزق،
بالإضافة إلى البحث الإنساني والبصري عن مصائر الناس الذاهبين إلى
حتفهم جرّاء سياسة أنظمة قمعية حاكمة، شكّلت كلّها مادة إنسانية
وسؤالاً أخلاقياً لفيلمين اثنين هما "حنين إلى الضوء" للتشيلي باتريسيو غوزمان و"48" للبرتغالية
سوزانا دو سوزا دياز. غاص الفيلم الأول في متاهة الفقدان والتغييب
التي صنعتها سلطة الديكتاتور التشيلي أوغستينو بينوشيه، من خلال مرصد
فضائي امتدّ على مساحات شاسعة يُقال إنها أرض التاريخ المعاصر لتشيلي
أيضاً. وذهب الفيلم الثاني إلى السؤال نفسه من خلال صُوَر فوتوغرافية
التقطها رجال "الشرطة السياسية" التابعة لنظام الديكتاتور البرتغالي
أنتونيو دي أوليفييرا سالازار لضحايا العنف القمعي ضد المعارضين.
هذا
مثلٌ أول. الأفلام القليلة المختارة للدورة المذكورة أضاءت أحوال أناس
ومدن وتاريخ وصدامات في أمور شتّى. هناك "كليفلاند ضد وول ستريت"
للفرنسي جان استفان برون أيضاً: استقى حكايته من إحدى القصص المعروفة
جداً في المجتمع الرأسمالي. الوحش المالي واللوبي العقاري والشبكات
التجارية المختلفة تولّد، دائماً، حالات فقر وتهميش لا مثيل لها،
وتشويهاً خطراً للبنى المجتمعية والعمرانية والاقتصادية، أحياناً. إنه
فيلم عن معنى المواجهة، القانونية والأخلاقية والفكرية، بين سلطات
ذاهبة بمشاريعها إلى أقصى الجنون والهوس بالأرباح والسطوة، وأناس
راغبين في حياة كريمة. في الحادي عشر من كانون الثاني (يناير) 2008،
استحضر جوش كوهين وشركاؤه محامو المدينة الأميركية كليفلاند واحداً
وعشرين مصرفاً إلى القضاء، بتهمة "الحجز العقاريّ" الذي قامت به هذه
المصارف مجتاحة، بسببه، المدينة وناسها. لكن مصارف وول ستريت التي
تعرّضت لهذا الاستحضار القضائي واجهت المسألة بشراسة، ساعية بكل جهد
ممكن إلى عدم فتح الدعوى: "إنها قصّة دعوى قضائية كان يُفترض بها أن
تحدث"، كما وُصف الفيلم الذي لا يزال عددٌ كبيرٌ من المعنيين بالقضية
هذه، الذين ظهروا في الفيلم أو بقوا في كواليسه، حيّاً يُرزق. إنها
إحدى تلك القصص الواقعية، التي بلغت حدّتها مرتبة خطرة، إلى درجة أنها
باتت أقوى من أي تخييل درامي.
عربياً، هناك حدثان اثنان: تكريم السينمائي الوثائقي السوري الراحل
عمر أميرالاي، الذي توفّي في الخامس من
شباط (فبراير) الفائت، بعرض فيلمين له هما "هناك أشياء كثيرة يُمكن
للمرء أن يقولها" (1997) و"طوفان في بلاد البعث" (2003)، وبلقاء جمع
أصدقاء المخرج ومعارفه، أُلقيت فيه شهادات، وعُرضت أثناءه مقتطفات من
أفلامه المتنوّعة. إلى هذا التكريم، عُرض فيلمان وثائقيان عربيان
حديثا الإنتاج (2010): "ظلال" للمصرية ماريان خوري و"الأئمة يذهبون
إلى المدرسة" للتونسية كوثر بن هنيّة. هذان نموذجان مأخوذان من عمق
الحراك الإنساني والثقافي والمجتمعي في قلب البيئة العربية، سواء أفي
البلد الأم (مصر في الفيلم الأول)، أم في بلاد الهجرة والاغتراب
(فرنسا في الفيلم الثاني). هذان فيلمان طالعان من داخل الغليان الحاصل
في البيئة نفسها، أُريد لهما، وإن بطريقة غير مباشرة، أن يكونا أقرب
إلى شهادة بصرية عمّا يعانيه أناسٌ كثيرون داخل بلدانهم، وعمّا يواجهه
آخرون من تحدّيات دينية وحضارية وثقافية وأخلاقية في المهاجِر. ذلك أن
مستشفى الأمراض العصبية في "ظلال" صورة مختصرة عن سلوك جماعي واهتراء
إداريّ وفساد أخلاقي ولامبالاة صارخة على مستويي الصحّة النفسية
والعلاجات التي يُفترض بالمسؤولين تقديمها للمُصابين بالاضطرابات
النفسية. في حين أن التناقضات التي بنت أرضاً صلبة في "الأئمة يذهبون
إلى المدرسة"، سمحت لكوثر بن هنيّة أن تُشيّد عليها بناء متكاملاً من
الصُور السينمائية والحراك الإنساني والتفاصيل الخاصّة بالصدام الحاصل
بين المسلمين المهاجرين إلى فرنسا والثقافة العلمانية الراسخة في
النظام المتكامل لهذا البلد الكاثوليكي.
يُمكن القول، ببساطة، إن "ظلال" تضمّن صورة ما عن التناقض، وإن
بشكل موارب. فالشكل الخارجي للحكاية متناقض والدهاليز البشعة التي سقط
فيها المُصابون بارتباكات نفسية من دون قصد أو انتباه. والعنوان العام
للحبكة الإنسانية أدّى إلى النقيض التام للقصّة، لأن الحيّز الطبي/
الصحّي هذا يُفترض به أن يكون ملجأ لهؤلاء الناس، بدلاً من أن يبقى
امتداداً ما لجحيم العيش خارجه. التناقضات التي ارتكز "الأئمة يذهبون
إلى المدرسة" عليها مختلفة تماماً. خصوصاً أن الموضوعين لا يلتقيان مع
بعضهما البعض إلاّ في لحظة واحدة: الواقع الحياتي لعرب مسلمين، سواء
أفي مشفى داخل البلد، أم في مدينة غربية. فقد وجدت كوثر بن هنيّة في
الصدام الدائر بين الثقافة التربوية للمسلمين وعلمانية بلد المهجر
مدخلاً إلى فهم واقع الحال الإسلامي في بلد منبثق من ثقافة كاثوليكية،
دفع أبناؤه ثمناً باهظاً جداً لتحويله إلى بلد علماني بالمطلق.
التناقض حاصلٌ أيضاً في أن الأئمة، الذي يتابعون دروساً في الإسلام
تجعلهم أئمة، مضطرّون، بحسب القوانين الفرنسية، لمتابعة دروس في
العلمانية يلقيها أساتذة في "المعهد الكاثوليكي".
بالعودة إلى "ظلال"، بدا المشهد قاسياً ومؤثّراً: أناس محتاجون إلى
رعاية صحّية ومتابعة نفسية تحول دون تفاقم أحوالهم المثقلة بألف همّ
واضطراب، باتوا داخل أروقة المستشفى مجرّد آلات تعيش وفقاً لفلتان
إداريّ وغياب مراقبة صحّية. بل إن بعض هؤلاء، ممن ظهر أمام كاميرا
ماريان خوري، لم يتردّد عن القول إن وجوده في المستشفى سنين طويلة
جداً جعله يرفض الخروج إلى العالم الذي لفظه ذات يوم. الحكايات التي
سردها بعض هؤلاء مثيرة ومؤثّرة في آن واحد: مثيرة للمتابعة بهدف
المعرفة والاطّلاع على أحوال بيئة كانت، في الأعوام القليلة الفائتة
(أي في الفترة نفسها تقريباً التي بدأ الإعداد خلالها لإنجاز الفيلم،
ثم البدء بتنفيذه وصولاً إلى تحقيقه كاملاً)، تعيش حالة غليان داخلي
جرّاء تنامي مظاهر الفساد والقمع والتسلّط القاتل وسياسة إفقار الناس
"الغلابة" بهدف إثراء بعض المنتفعين هنا وهناك. فالفلتان الإداري
والطبي داخل المستشفى يكاد يتكامل والفلتان الحاصل في جسد المجتمع
المصري وروحه. والحاجة الماسّة إلى رعاية ومتابعة وعلاج، تتماهى بحاجة
المصريين إلى رعاية حقيقية ومتابعة يومية وعلاج مفيد للآفات المعتملة
في مؤسّسات البلد ومرافقه الأساسية. وعلى الرغم من هذه المقارنات
السريعة، فإن "ظلال" يبقى، في الدرجة الأولى، شهادة بصرية عن أحوال
أناس ضربتهم مصائب نفسية، بدت أخفّ وطأة من المصائب التي انهالت عليهم
داخل المستشفى.
أما
"الأئمة يذهبون إلى المدرسة" فزاخرٌ بالمعطيات الجوهرية التي صنعت
أشكال الصدام، وسعت إلى تنظيم العلاقة بين الطرفين المعنيين بالأمر،
في وقت واحد. فالسؤال الأبرز، بالنسبة إلى المسلمين، كامنٌ في العثور
على جواب عن معضلة التوفيق بين تعاليم الإسلام وقواعده التربوية
وثقافته العامّة، والثقافة العلمانية المفروضة على أشكال الحياة في
فرنسا. أحد الأئمة قال إن على المسلم المؤمن أن يُراعي حُسن الجيرة
والضيافة، وإن هناك من هو أفضل من المسلم أحياناً. بهذا، يرغب الإمام
في التعبير عن قناعته في إمكانية العيش وفقاً لقوانين البلد المضيف،
خصوصاً أن كوثر بن هنيّة رأت في العلمانية ضمانة للمسلمين، لأنها (أي
العلمانية) كفالة لهم بممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية: "أدرك مسلمون
كثيرون أن العلمانية لمصلحتهم، لأنها سمحت لهم بممارسة شعائرهم
الدينية بحرية كاملة، في كنف القانون العلماني". أضافت أن هؤلاء
المسلمين المقيمين في فرنسا أدركوا أيضاً أن النظام العلماني "صان
المساواة بين الأديان كلّها"، وأن "هذا الأمر يُشكّل مصلحةً لهم".