المناضل المسرحيّ الذي أراد أن يجعل البندقية أداة تحرير لا قتل
اغتيال الفنان الفلسطيني اليهودي جوليانو مير
خميس
نديم جرجوره
2011.04.09 - شكّل اغتيال الفنان الفلسطيني
اليهوديّ جوليانو مير خميس، في الرابع من نيسان/أبريل 2011 عن ثلاثة
وخمسين عاماً، صدمة كبيرة لكل الذين عرفوه إنساناً مناضلاً من أجل
الحقّ الفلسطيني، عن طريق الإبداع وتفعيل أدواته داخل المجتمع
الفلسطيني تحديداً. شكّل صدمة للعاملين في الشأن الثقافي والحراك
الفني في العالم العربي، الذين اعتبروا نشاطه المسرحيّ داخل مخيم
جنين، منذ منتصف الثمانينيات المنصرمة إلى جانب والدته آرنا (عاد إليه
في العام 2002، بعد تعرّضه لأبشع حرب إسرائيلية)، أحد أجمل أدوات
مواجهة الاحتلال والرجعية معاً. فالرجل، المتحدّر من عائلة لها
مكانتها البارزة في الوجدان الشعبي والعقل السياسي والانفعال الثوري
في فلسطين المحتلّة، اختار خشبة المسرح حيّزاً لتطوير الوعي الفردي
وتثقيفه وتحصينه من وحشية التطرّف المتنوّع الوجوه والأهداف، درءاً
لمخاطر الوقوع في الجنون العاصف في فلسطين، جرّاء الاحتلال
الإسرائيلي. والفنان، الطالع من اختبار ميدانيّ لوحشية الجنديّ
الإسرائيلي في التعاطي مع الفرد الفلسطيني، جعل التمثيل وفضاءاته
الإنسانية والثقافية والإبداعية ملاذاً لمواجهة القهر والألم
والتمزّق، وأداة لصناعة الفرح النابت من أعماق الحزن والخيبات، وطريقة
لمقارعة التخلّف وأشكال الموت اليومي.
ذلك
أن جوليانو مير خميس، ابن المناضلة اليهودية آرنا مير المنتقلة من
أقصى التطرّف الصهيوني إلى أعماق الكفاح الثقافي والإبداعي والإنساني
والسياسي الفلسطيني الميدانيّ، وابن المناضل الشيوعي الفلسطيني صليبا
خميس أحد أبرز العاملين في صفوف "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" (وزّع
نشاطه على "جبهتي" الفكر السياسي وحماية الأرض "كتابة وممارسة")، عاند
وحوش الظلامية والرجعية منذ سنين طويلة، سواء كانوا فلسطينيين
متزمّتين أم إسرائيليين صهاينة، بدوا كأنهم التقوا جميعهم، عن قصد أو
عن غير قصد، ضد هذا الرجل الأعزل إلاّ من إيمانه بأن المسرح والتمثيل
والإبداع والثقافة أفضل السبل العصرية لمواجهة الجنون والموت. بل ضد
مشروعه الإنساني المرتكز على أولوية الوعي الثقافي والمعرفي بأهمية
الحراك الفني، وبأهمية تحويل خشبة المسرح إلى مرايا الذات والآخر، في
معركة طاحنة ضد العنف الدموي الذي أغرق فلسطين في الخوف والتمزّق
والألم. ولئن أراد الفنان فيه تحويل الفن إلى سلوك بشريّ معنيّ بتحصين
الذات من الهوس بالقتل والتخريب والتزوير، هو القائل إن "البندقية
التي لا ثقافة وراءها تقتل ولا تُحرّر"؛ فإن الإنسان فيه ظلّ وفياً
للإحساس الذاتيّ والعام بالقدرات المبطّنة في أعماق الفرد على مواجهة
طغيان الأميّة والرجعية. وبقدر ما واجه جنون الاحتلال الإسرائيلي، منذ
اللحظة التي عاين فيها عنف الفرد، المتأتّي أصلاً من تربية جماعية
صارمة، ضد أناس عزّل، لم يتردّد عن مواجهة التحدّيات الفلسطينية
الداخلية أيضاً، واضعاً أمام عينيه هدفاً أساسياً: كسر حدّة الجنون
المدوّي في جغرافيا منذورة للصراع الحادّ على الأرض والتاريخ والهوية
والانتماء.
في مقالته المنشورة في الصحيفة السعودية اليومية "الحياة" في
الثامن من أبريل (نيسان) 2011، استعاد أنطوان شلحت لحظة إحراق "مسرح
الحرية" في مخيم جنين في العام 2009، متوقّفاً عند المضمون السجالي
الذي تضمّنه بيان مير خميس إثر الحريق. قال شلحت إن هناك نقطتين
"تُشكّلان العصب الرئيس لمشروعه الفني": الأولى متمثّلة بتأكيده على
أن "لكل ولد في العالم الحقّ في أن يزور المسرح ويتعلّم لغته، وأن
يملك القدرة على تجيير الفنون للتعبير عن هويته الجماعية وشخصيته
الفردية والتظاهر بهما". أما الثانية فنصّت على أن اتّهام العاملين في
المسرح أنهم ضد الدين والعادات الاجتماعية "افتراء ساقط" لأن الغاية
الأساسية للمسرح بالنسبة إليه كامنةٌ في "تسليح النشء الجديد بالمعرفة
والقيم وتعميق شعور الاحترام الذاتي لديه إزاء تاريخه وديانته وروابطه
الاجتماعية".
يُلخّص هذا الأمر المفهوم العام للتجربة الفنية التي خاضها جوليانو
مير خميس داخل مخيم جنين بالذات. فالمخيّم، الذي شهد اجتياحاً
وتدميراً إسرائيليين فظيعين في العام 2002، بدا له المكان الأنسب
للبدء بتحقيق حلمه المسرحيّ هذا: "أعطى جنين وفلسطين مسرحاً يُعِدّ
ويُدرِّب مسرحيين شباناً. أعطى الأمة مسرحاً، وللمسرح أعطى حياته"،
كما كتب حسن البطل في عموده اليومي في الصحيفة الفلسطينية "الأيام" في
السادس من أبريل (نيسان) 2011. غير أن انهماكه في العمل المسرحي،
إعداداً وإخراجاً وتدريباً، لم يقف حائلاً دون اهتماماته السينمائية،
التي بدأت في العام 1984 بفيلم "عازفة الإيقاع الصغيرة" لجورج روي هيل
إلى جانب ديان كيتون، المتوغّل في قلب الصراع العربي الإسرائيلين
باقتباسه رواية جون لو كاري الصادرة بالعنوان نفسه في العام 1983،
وبتقديمه حكاية مارتن كيرتز الجاسوس الإسرائيلي الذي طارد خليل
الفلسطيني بهدف اغتياله، متّهماً إياه بأنه منفّذ عمليات تفجير وقتل
ضد أهداف إسرائيلية في أوروبا. غير أن مشاركاته السينمائية كانت واضحة
التوجّه، ثقافياً وسياسياً. فعلى الرغم من الإشكاليات النقدية
المتعلّقة بالبُنى الفنية والدرامية والجمالية لبعض هذه الأفلام، إلاّ
أن الخيارات السينمائية لمير خميس انصبّت، من بين أمور أخرى، على
تبيان الوقائع الإنسانية الفلسطينية الناتجة من شدّة القسوة المعتمدة
من قبل الإسرائيليين، ومن أنماط التربية الاجتماعية الفلسطينية نفسها.
فمن ميشال خليفي في "عرس الجليل" (1987) إلى عاموس غيتاي في أفلام
عدّة، أبرزها "يوم يوم" (1998) و"كيبور" (2000) و"كاديما" (2002)، ظلّ
جوليانو مير خميس ناشطاً في المجال السينمائي المتنوّع الأساليب،
وباحثاً لا يتعب عن كل ما يُمكنه كشف المستور في البنائين الإسرائيلي
والفلسطيني معاً. وهو ظهر مؤخّراً في آخر دورين له في فيلمي "ملح هذا
البحر" (2008) للفلسطينية آن ماري جاسر و"ميرال" (2010) للأميركي جوليان شنايبل،
المنتميين هما أيضاً إلى لائحة النتاجات الساعية إلى فضح المبطّن في
السياسة الإسرائيلية كما داخل المجتمع الفلسطيني.
بهذا المعنى، يُمكن القول إن القراءة النقدية لأدائه التمثيلي
السينمائي تميل أكثر إلى خياراته السياسية والثقافية في أفلامه
السينمائية: فـ"عرس الجليل" مثلاً شكّل الانطلاقة الأولى لسينما
فلسطينية جديدة تناقش واقع الحياة اليومية للفلسطينيين في ظلّ
الاحتلال، مفكّكة ركائز هذا الواقع لفهم حقائق التمزّق الداخلي،
النفسي والروحي والاجتماعي، من دون تناسي آثار الاحتلال الإسرائيلي
على هذين الواقع والمجتمع الفلسطينيين. والجانب اليساريّ (الملتبس
أحياناً) في اشتغالات عاموس غيتاي ساهم في بلورة نظرة مغايرة للسائد
الإسرائيلي، من خلال تحليل سينمائي للبنى النفسية والانفعالية
والاجتماعية في دولة إسرائيل ومجتمعها، بشكل نقديّ أثار سجالات عدّة.
بهذا، أكمل جوليانو مير خميس حراكه الإنساني، محوِّلاً التمثيل
والاشتغالات الفنية كلّها إلى أدوات حيّة للصراع ضد المشروع الصهيوني،
كما ضدّ الظلامية الفلسطينية.
لعلّ سؤال الهوية ظلّ أكثر الأسئلة إلحاحاً على جوليانو مير خميس
في سيرته الحياتية والفنية معاً. فهو وُلد في عائلة بدت خلاصة خيار
إنساني للتواصل والعيش المنفتح على التسامح والتمسّك بالحقّ والعدالة،
بين طرفين متصارعين. واختياره أمّه للبقاء معها بعد انفصالها عن زوجها
بدا تأكيداً منه على إنسانية تحاول جعل الهوية الدينية مدخلاً إلى فهم
الآخر والتواصل معه، بدلاً من أن تكون سبباً لمزيد من الدم والعنف
والخراب والصدام. ثم إن بقاءه مع أمّه آرنا، التي عملت طويلاً في مخيم
جنين مع أطفاله وناسه، جعله يتابع فصول المعاناة الرهيبة التي عاشها
الفلسطينيون، في مقابل ولعهم الرائع بالحياة والمواجهة والتضحية. في
العام 2003، أخرج وأنتج "أولاد آرنا"، الذي استعاد وجوهاً لشباب
فلسطينيين كانوا أساسيين في العمل المسرحي مع والدته، التي ظهرت في
الفيلم هي أيضاً، قبل وقت قصير على وفاتها إثر إصابتها بمرض سرطاني:
في هذا الفيلم، التقى مير خميس بكل من يوسف (عملية انتحارية في العام
2001) وأشرف (قتله جنود إسرائيليون في العام 2002) وعلاء (قائد مجموعة
قتالية شبابية، استُشهد في العام 2003). هؤلاء الثلاثة كانوا ممثلين
واعدين عندما اشتغولا مع آرنا، قبل أن يأخذهم الصراع ضد العدو
الإسرائيلي إلى مصائرهم هذه. فيلم بديع، كشف معنى أن يكون المرء
مقاتلاً واعياً اختباره الإنساني في مواجهة تحدّيات الاحتلال والموت.
لكن، لا يمكن نسيان أن خدمته العسكرية في الجيش الإسرائيلي منحته فرصة
الانقلاب على الذات، عندما شاهد كيف يُمكن للمرء أن يكون وحشاً، وكيف
يُمكن لثقافة جماعية أن تُنتج عنفاً لا ينتهي.