ندين لبكي تسأل من كانّ: "وهلأّ لوين؟"
كان- ريما المسمار
2011.05.17 - حكت ندين لبكي أمس حكايتها في
مهرجان كان السينمائي عن ضيعة تشبه بلداً ومعضلة تشبه حاضراً وتعيد
إلى الأذهان ماضياً لم يُطوَ بعد. "وهلأّ لوين؟" هو عنوان الشريط الذي
عرض أمس في قسم "نظرة ما"، معيداً المخرجة إلى الكروازيت مرة ثانية،
بعد أن عرضت باكورتها "سكر بنات" في تظاهرة "نصف شهر المخرجين" عام
2007، ومتنافساً مع أفلام اخرى لمخرجين معروفين، ليس من بينها أعمال
عربية سوى تجربة لبكي الفيلمية الثانية. ولا شكّ في أن السنوات الأربع
الفاصلة بين "سكر بنات" و"وهلأّ لوين؟" أتت بثمارها على الأخير الذي
خرج أنضج وأعمق، مبرهناً عن ثقة كبيرة لدى المخرجة في التعاطي مع
الموضوع المرح والساخر والدرامي في آن، كما مع الشكل البصري المفتوح
على المشاهد الخارجية والعدد الكبير من الممثلين، غير المحترفين
بمعظمهم، واللغة السينمائية المستلهمة من مرجعيات سينمائية غير خافية،
في مقدمها سينما بيدرو ألمودوفار وإمير كوستوريتسا ومشهديات إيرانية،
اتخذت من خصوصية المكان بطلاً ومحرّكاً درامياً للأحداث والشخصيات.
وغير بعيد من المقاربة
فوق- الواقعية للواقع، تلوح في الخلفية تجربتان لبنانيتان، إحداهما
أنجزتها المخرجة اللبنانية ديما الحر في "كل يوم عيد" (2008)، وثانية
ظلّت مشروعاً على ورق بسبب وفاة مخرجتها رندة الشهال ونقصد بها "لسوء
حظّهم". الأخير أيضاً كان معنياً بحكاية قرية منقسمة حول مباراة كرة
قدم، فيما مالكة المقهى الجميلة (كان يفترض بالدور أن يذهب إلى هيفاء
وهبي) عالقة بين الطرفين. لا يقلّل من شأن فيلم لبكي اقترابه من عوالم
ألمودوفار وكوستوريتسا ولا يضيره التماس مع تجربتين لبنانيتين أخريين.
بل إن ذلك التماس الأخير يجعله ينتمي إلى رؤية خاصة لموضوع الحرب،
تذهب بها إلى تخوم يختلط عندها الواقع بالخيال، كتعبير عن فشل الوعي
في استيعاب الواقع كما هو، أو الرفض الإرادي المباشر لتحمل قسوة هذا
الوقاع وتعقيداته. الحرب في شريط لبكي حاضرة بشكل مباشر، وإن كان
القالب الحكائي وافتتاحية الفيلم يحيلانها حكاية أشبه بخرافة، في
إشارة إلى ضرورة استخلاص عبرة منها. تبدأ الأحداث في قرية جبلية،
سكانها من المسلمين والمسيحيين، الذين اختبروا حرباً في الماضي،
لاتزال آثارها ظاهرة في المقبرة القريبة والأسود الذي يوحّد لباس بعض
النسوة وفي النكات والتعليقات الطائفية المبطّنة والظاهرة. تبدو
القرية جزيرة مقطوعة عن العالم، إلا من خلال جهاز تلفزيون قديم مثبت
في الهواء الطلق في زاوية يتيمة قادرة على استقبال إشارات البث، وبعض
الصحف الذي يجلبه "نسيم" (كيفن عبود) إبن صاحبة الفرن "تقلا" (كلود
باز مصوبع في أداء لافت) من خارج القرية بواسطة دراجته القديمة. أما
حدودها فحقول ألغام قد يذهب ضحيتها أحد أهاليها أو المعزة "بريجيت"!
لا يلبث ذلك التواصل مع العالم الخارجي أن يتحوّل تهديداً بانقسام
طائفي جديد، لا يحتاج إلى الكثير لكي ينفجر. فأخبار التلفزيون والصحف
تنقل إرهاصات حرب قادمة، بما يلقي الرعب في نفوس النساء اللواتي لم
تجف دموعهن بعد على فقدان ابنائهن وأزواجهن في الحرب السابقة. هكذا
يقرّرن، على الرّغم من شكوكهن الذاتية بالسلم والتعايش، تجنيب الرجال
حرباً ثانية وبأي ثمن. فتنطلق سلسلة من الخطط الطريفة للتحايل على
الرجال وإلهائهن، تصل في النهاية إلى حل سوريالي، يحمل في باطنه سؤال
"ماذا لو؟".
لا تنأى تلك المحاولات النسائية المستشرسة لتجنّب الحرب بالقرية عن
الأحداث التراجيدية، بما يمنح الفيلم جانبه الدرامي في مشهدين أو
ثلاثة اساسية. حول هذه المشاهد، تصوغ لبكي (شاركها الكتابة كل من جهاد
حجيلي ورودني الحداد، شريكيها في "سكر بنات، وتوما بيديغان أحد
المشاركين في كتابة "نبي" لجاك أوديار) مشاهد كوميدية عدة وقصصاً
جانبية بين النساء أنفسهن وبينهن وبين الرجال، تقودها حكاية حب صامتة
ومكبوتة بين "آمال" (ندين لبكي) المسيحية صاحبة المقهى الذي يرمز إلى
أرض تعايش محايدة وبين "ربيع" (جوليان فرحات) المسلم. وفي اتجاه ثالث،
يبرز الخط الموسيقي الغنائي (موسيقى خالد مزنّر وكلمات تانيا صالح)
عنصراً معزّزاً للمقاربة فوق-الواقعية ولغة تعبير تفصح عن المكبوت.
ولعلّ تلك الخطوط مجتمعة، فضلاً عن التناول الساخر للطائفية ونظيره
المرح واللعوب للمعتقدات الدينية (التي نراها هنا "مستغلّة" لغاية
تجنّب الحرب وليس تبريرها كما هي الحال غالباً) هي التي تجنّب الفيلم
اسئلة واقعية من نوع: هل الإنغلاق على الذات وتجنب المواجهة هما الحلّ
لدرء مخاطر الحرب؟ هل التحايل على الواقع والتلهي عنه السبيل الوحيد
إلى التعايش بسلام؟ وهل الموسيقى والغناء قادران على مواجهة التطرّف
كما اقترح الراحل يوسف شاهين في فيلمه "المصير"؟ كل تلك الأسئلة
وغيرها تعبر الذهن في لحظة أو أخرى ولكنّها لا تلبث أن تتلاشى أمام
محاولات المخرجة الدؤوبة الخروج بفيلم يناوش الواقع ويؤلم في بعض
المواضع من دون أن يتخلى عن نبرته الساخرة والمرحة. إنه فيلم عن كل
الاسباب المنطقية والمحقّة التي نعرفها ونردّدها والتي يجدر بها أن
تقف في وجه أي حرب طائفية جديدة، ولكنّها تُشلَ غالباً أمام سؤال
"وهلأّ لوين؟" الذي يعيدنا إلى نقطة البداية ويرمي بنا في المتاهة من
جديد.
من أجواء فيلمها الاول، استعادت لبكي في جديدها تجربة العمل مع
الممثلين غير المحترفين إنما على نطاق أوسع، إلى جانب عدد من
المحترفين مثل عادل كرم وآنجو ريحان ومحمّد عقيل وزياد أبو عبسي وسمير
عوّاد ومنذر بعلبكي الذين اضطلعوا، إلى لبكي، بأدوار لا يختلف تأثيرها
ومساحتها عن تلك التي يلعبها غير المحترفين بحرفية وأداء لافتين.
كذلك، نذرت فيلمها الجديد كما الأول لحكايات النساء بالدرجة الأولى
ولرؤيتهن. "وهلأّ لوين؟" إنتاج مشترك بين فرنسا ولبنان وإيطاليا ومصر
للمنتجة الفرنسية آن-دومينيك توسان التي أنتجت "سكر بنات".
(المستقبل)