أوروبا تهيمن على مسابقة كارلوفي فاري والعرب مرحب بهم مجدداً
افتتاح الدورة 46 بتكريم جودي دنش وعرض "جاين
آير"
كارلوفي فاري ــ هوفيك حبشيان
2011.07.04 - كارلوفي فاري رقعة في أوروبا
البوهيمية يزورها طالبو العلاج والنقاهة على مدار السنة. هي من اكثر
المدن الأوروبية هدوءً وجمالاً. مياه ينابيعها تتدفق من باطن الارض
بحرارة قد تصل الى سبعين درجة مئوية، تقع في "الجناح الروسي" من
جمهورية تشيكيا. مكان مفعم بالحياة. بعد سنة من الغياب، ها هو
المهرجان الذي يحمل اسم المدينة - مهرجان كارلوفي فاري السينمائي
الدولي- ينهض مجدداً، بدورة جديدة، لا نعرف بعد مدى اختلافها عن
الدورة الفائتة. قبل بضع سنوات، عندما تخطى الأربعين من العمر،
أعتقدنا انه لن تكتب له قطّ ولادة ثانية تسمح بإعادة النظر في سبب
وجوده وفوائده. لكنه بدا، غداة النتائج الملموسة لسقوط الستارة الحديد
ونهاية الحقبة الشيوعية، أكثر شباباً وانفتاحاً من مهرجانات أخرى لا
تزال في سنواتها الاولى.
في أجواء من الشتاء
المستعاد، افتتحت مساء الجمعة الأول من تموز/يوليو الدورة الـ46 من
المهرجان الذي يصادف انعقاده هذا العام مع حدثين بارزين هما مهرجان
باريس السينمائي وتظاهرة لاروشيل الثقافية. بحضور أهل السينما
والثقافة والفن وسيدات المجتمع والرسميين، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية
التشيكية، انطلق الافتتاح بتسليم الممثلة البريطانية الكبيرة جودي دنش
جائزة فخرية من يد رئيس المهرجان يري بارتوسكا ثم عُرض فيلم "جاين
آير" الذي تضطلع فيه بدور السيدة فيرفاكس.
على الرغم من الأزمة المالية التي تعصف بالعالم بأسره والتقليص
الذي كان من مصير الموازنة المخصصة بالتظارات السينمائية في أوروبا،
كان الحضور كثيفاً، وامكانيات المهرجان، من العاب نارية وضيافة، لم
تضعف البتة ولم تتراجع. فكارلوفي فاري يراهن على طرفين يكمل واحدهما
الآخر: الرعاة والجمهور. أكثر من 125 ألف مشاهد حضر الدورة الماضية،
بما هو أمر يشجع الادارة على الاستمرارية، وهناك مئات المهنيين الذين
سيحضرون الى المدينة في الأيام المقبلة، وبأعداد كبيرة بالنسبة إلى
مهرجان ليست النجومية والبهرجة من أولوياته.
طوال أيام المهرجان تبدو المدينة وكأنها في أعراس الملوك والأمراء.
هي دائماً متأهبة لكل شاردة وواردة. المتفرجون من بعيد، الذين لا
يرتادون الصالات، يتجمهرون مساء، لمشاهدة بعض نجوم السينما الأميركية
أو التشيكية او الأوروبية، وهم يسيرون على السجادة الحمراء ويلقون
التحية، ضمن احتفالية صارت مألوفة في كل التظاهرات السينمائية. حفل
الافتتاح باذخ الامكانات دائماً: نمور راقصة واستعراض وتسلية، على
الرغم من الطابع الجدي المهيمن على هذا الحدث في باقي
الأيام.
العائد الى كارلوفي فاري، عاماً بعد عام، لا بد أن يصبح أمام يقين
أن لا شيء كثيراً يتغير هنا مع مرور الأيام. لا يزال مقر المهرجان في
فندق ترمال ذي الهندسة السوفياتية الجامدة صامداً أمام التحولات التي
تأتي الى الجمهورية التشيكية. صامداً وكأنه من آخر معالم تاريخ يستطيع
القائمون على المهرجان مخاطبته اليوم وهم يرفعون الكلفة في كلامهم
معه!
الانطلاق اذاً مع "جاين آير"، في أفلمة جديدة لرواية تشارلوت
برونتي تحمل توقيع الأميركي كاري فوكاناغا. هذه ليست المرة الاولى
التي تنكب فيها السينما على الكتاب الشهير، بل هناك عشرات النسخ
تتفاوت قيمتها بين واحدة وأخرى، ولا نعرف ماذا يضيف فوكاناغا على
زملائه الذين سبقوه في نقل نصّ برونتي الى الشاشة.
معظم الأفلام الـ12 المتسابقة على جائزة أفضل فيلم روائي
طويل أوروبية الصنع. دزينة من الأعمال الجديدة ستعاينها لجنة مؤلفة من
سبعة أعضاء جميعهم من أصول أوروبية ما عدا ناقدة اسرائيلية الجنسية.
لايتسفان تسابو تاريخ مجيد لكنه بات مقلاً في المرحلة الأخيرة من
مساره. لا نعرف كيف سيتلقى هذه الافلام التي فيها الكثير من التجارب
الاولى والشابة. الرجل صنع بعض الأمجاد من خلال سينما نجد جذورها في
تقلبات أوروبا الشرقية الملهمة وخياراته ستنم ربما من هذا
المنطلق.
أهم ما في كارلوفي فاري هو انه منصة لأفلام أوروبا الشرقية
التي تتيح لك ان تراها كجدارية كاملة متكاملة، مع نقاط ضعفها وهواجسها
ولكن ايضاً بمواهبها الرصينة. لكن المشكلة الكبرى في كارلوفي فاري
تبقى الكيفية التي يتم فيها اختيار الأفلام، وهو انتقاء يخضع لاشكالية
تاريخية دخلت ربما في لاوعي المهرجان. واذا كانت الادارات المتعاقبة
منذ سقوط الستار الحديد تجاوزت المعايير المزدوجة، فبعض الهواجس يعود
الى الواجهة من حين الى آخر.
لفهم هذا الجانب من كارلوفي فاري، لا بد من مراجعة فصل من تاريخه:
في الستينات، كان المهرجان يقدم الكثير من الأفلام الأميركية
اللاتينية. وكان يتمتع بصيت جيد. لكن بعد الاحتلال، أي في عام 1968،
بات واجهة للمظاهر الرسمية وفقد الكثير من ألقه. غالبية الأفلام كانت
تأتي من بلدان "صديقة". على الرغم من ذلك، استطاعت ماري جوزيه نات،
العضو في لجنة التحكيم، ان تقنع باقي الاعضاء، ومن بينهم كشيشتوف
زانوسي، بمنح الجائزة الكبرى لفيلم كين لوتش ("العوسق" Kes)، الذي لم
يكن يعرفه أحد انذاك، بدلاً من اعطائها لفيلم روسي مؤدلج سياسياً. من
الغرب لم يكن في استطاعة رواد المهرجان الا مشاهدة الأفلام الملتزمة
سياسياً: كوستا غافراس أو أندره كايات. كانوا سينمائيين أوروبيين في
معظمهم. السينما الأميركية كانت شبه غائبة. كان التشيكيون يبالغون في
مشاهدة الأفلام الروسية، أو تلك التي كانت تبعثها اليهم الجمهوريات
التابعة للاتحاد السوفياتي في آسيا، بالاضافة الى الافلام المجرية
التي انجزت انذاك في رعاية رسمية. كان المهرجان يحتضر، لأن المشاهدين
لم يكونوا يهتمون بما يُقدم إليهم.
ابتداء من عام 1994، تاريخ تسلم زاورالوفا الادارة، تمّ السعي الى
تشكيل برنامج لافت، الهدف منه جذب انتباه الشباب. جرى البحث عن أفلام
تتماشى مع فهم الادارة الجديدة للجماليات، وعلى هذه الأعمال ان تكون
على قدر من الجدية، مع شرط تقني بالنسبة الى أفلام المسابقة، هو أن
تكون عرضاً أول، وهذا شيء في منتهى الصعوبة، لأن المهرجانات الثلاثة
الأوائل، كانّ وبرلين والبندقية، تنال كل ما تريد. فأن تجد، في ظل
الوضع القائم على المهرجانات المصنفة فئة "أ"، اعمالاً تفي بالغرض
وتستجيب للمهمات الموكلة اليها، وتنجز برنامجاً يكون على مستوى معين
من الجودة، فذلك شيء في منتهى الصعوبة.
وعلى الرغم من ان المهرجان بات يؤكد علمانية دائمة بعد سنوات من
التبعية السياسية بلغت ذروتها في منتصف الثمانينات من القرن الفائت،
فلا يزال القائمون عليه يهملون، وذلك منذ سنوات طويلة ولأسباب غير
واضحة تماماً، مناطق ذات أهمية معينة. السبب: فقدان التواصل
وربما القليل من الأفكار المسبقة أو حتى غياب الفضول. هكذا همشت بعض
التجارب العربية التي كانت تستحق أن تلاقي جمهورها هنا. لكن، اليوم،
مع انتقال ايفا زاورالوفا من الادارة الفنية الى الاستشارة، واستلام
كاريل أوك مكانها، يبدو أن هناك نية في الانفتاح على مناطق ظلمت
سابقاً. لذلك، نحن هذا العام أمام فيلمين عربيين، أولاهما "
طيب، خلص، يللا" للبنانية رانية عطية الذي سبق أن عرض في مهرجان
أبوظبي السينمائي حيث نال جائزة، والثاني "رجل بدون
موبايل" للفلسطيني سامح الزعبي، بالاضافة الى فيلم كندي في عنوان
"روميو 11" لايفان غربوفيتش يشارك في بطولته اللبنانيان جوزف بو نصار
وعلي عمار.
المهرجان لا يكتفي بعرض الجديد. هناك حيز كبير للاستعادات
والقراءات المستحدثة لأعمال طبعت زمنها في ظل المعطيات الاجتماعية
والسياسية الجديدة. فالدورة الحالية تشهد تكريم سامويل فوللر. المخرج
اليميني يُعرض له 11 فيلماً تكلل مسيرة فنان لا يزال حول عمله سجال
كبير بعد 14 عاماً على رحيله. ولن يكون هذا التكريم الوحيد في
المهرجان اذ هناك ايضاً تحية الى دوني فيلنوف، الكندي الذي أخرج "
حرائق" مستوحياً من الحرب اللبنانية ذلك الفصل الدموي الذي سيقود
امرأة (لبنى أزابال) الى تراجيديا عائلية مؤثرة. من قسم معنون "خيارات
مجلة فاراييتي" الى الفسحة المعطاة الى جيل جديد من السينمائيين
اليونانيين، يحار المرء ماذا يشاهد وأي صالة يدخل. أضف الى هذا كله
عشرات الأفلام التي سبق لها أن عرضت في كل من كانّ وبرلين والبندقية:
من "ذات مرة في الاناضول" لنوري بيلج جيلان الحائز الجائزة
الكبرى في كانّ الأخير وصولاً الى "
نادر وسيمين: انفصال" لأصغر فرهادي (الدبّ الذهبي في برلين 2011)
مروراً بآخر أفلام كل من ميشال أوسلو والأخوين داردين وناني موريتي
وأكي كوريسماكي وبدرو ألمودوفار وبيلا تار، وأخيراً عملان بديعان كانا
في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية: "فينوس
السوداء" لعبد اللطيف كشيش (عربي ثالث في كارلوفي فاري) و"بوست
مورتم" لبابلو لارين.
الايقاع الذي يفرضه المهرجان لا علاقة له بالايقاع الرتيب الذي
يسود هنا المدينة خارج ايام التظاهرة. فالمكان - الرمز، الأثير على
قلوب النوستالجيين الى الحقبة الشيوعية، يعيش احتفالاً لا مثيل له.
صالات، ومقاهٍ، وممرات، كلها تنتفض وفق وتيرة تسقط عليها من فوق. فوضى
عارمة واضحة للعيان ما ان تدخل فندق "تيرمال"، حيث مجمل نشاطات
المهرجان ومكاتبه ونقاط بيع البطاقات، لكن القلوب كبيرة والمكان
للجميع من دون تمييز، خلافاً لمهرجانات أخرى جعلت الدخول الى مقرها
اشبه بالدخول الى سفارات بلدان مستهدفة. العنصر الشاب هو الذي يجعل
المهرجان على هذا النحو. ومع ان المراهقين الذين يحملون حقائب على
اكتافهم ويأتون الى هنا من مدن بعيدة، لا يتكلمون لغات أجنبية،
فالصورة تصل اليهم بلا سوء فهم، وهي دليلهم نحو ثقافات الآخر. في
المقابل يحكى كثيراً عن أن المافيا الروسية تتحكم بالمدينة. هنا الروس
يستثمرون كثيراً في شراء العقارات. في حوار لي مع زاورالوفا روت لي ان
هناك خوف من أن يشتري مقر المهرجان رجل أعمال من الجنسية الروسية، كون
المهرجان في منافسة شرسة مع مهرجان موسكو السينمائي. حتى ان ادارة
الأخير أقدمت على تغيير تاريخ انعقاد مهرجانها حرصاً على مصلحتها.
رئيس المهرجان جاء الى كارلوفي فاري ولاحظ أن الأمور تسير على ما
يرام، خلافاً للحال التي هي عندهم. فهل يعود الصراع يوماً؟