تحليل: "مثل عاشق" للإيراني عباس كياروستامي
احتفاء بعفة الكائن الجميل
2012.10.15 - يحتاج مشاهد جديد صاحب 'طعم الكرز'
(السعفة الذهبية عام 1997) المخرج الإيراني المميز عباس كيروستامي
العودة الى مرجعية سينمائية يابانية، للوقوف على مغزى اختياره العاصمة
طوكيو موقعاً لأحداث فيلمه الذي يحتفي بعِفة شخصياته القليلة. ذلك أن
قامة كبيرة مثله، لن تجازف بمقاربة ثقافة مغايرة، يمكن ان ترتد تبعات
سوء فهم عناصرها وقيمها ورموزهاعلى قطاع واسع من مريديه. هذا المبدع
الإيراني، الذي كتب عنه المعلّم أكيرا كوروساوا ذات مرّة: "أعتقد ان
أشرطة عباس كيروستامي أستثنائية. الكلمات لا تعبر عن مشاعري. سأقترح
عليكم أفلامه. عند ذاك، ترون ما أعنيه. توفى (المخرج الهندي) ساتياجيت
راي، وكنت مستاء جداً، ألا انني أثر مشاهدة أفلام كيروستامي، شكرت
الله أن لدينا اليوم بديلاً جيداً له"، واجه حيرة نقدية غير منصفة أثر
العرض الصحافي لـ"مثل عاشق" في مهرجان كان الأخير، أذ تحامل البعض من
دون ترو، وهاجموه "على جموده". بيد ان واقع الحال، كشف عورة كثيرين
ممن افتقدوا مبادرة اكتشاف التحية المعمقة التي وجهها مخرج "الريح
ستحملنا"(1999) الى أستاذ السينما العائلية الياباني ياساجيرو أوزو
(1903ـ 1963) الذي شعت أعماله بقصص شفيفة حول العائلة واستحقاقات
عواطفها.

أنكب أوزو على ثيمة المصالحة الشعبية، أثر خسارات يابان ما بعد
الهزيمة، فذهب الى البشر العاديين وصور بتأن نادر الأخلاق الجديدة
وتحولات الثقافة الوافدة. هناك تقابلات كثيرة في أعماله خصوصا في
"ثلاثية نوريكو" الشهيرة المكونة من 'ربيع متأخر'(1949) و'صيف
مبكر'(1951) و'حكاية طوكيو'(1953) بين الريف المتجانس كمقابل للمدينة
الكبيرة التي تعصف بها الحداثة واشتراطات المحتل. قارب أوزو هذه
التغييرات باعتبارها مكوّنا قوميا تحتاجه البلاد وأناسها الذين سئموا
أخبار المعارك وتضخم النعرة الشوفينية آنذاك. تجلى رهان كيروستامي في
حسم الشك بكيفية تفادي الأخلال بصنعة المعلّم أوزو، حين يقارب مخرج
أجنبي مثله مجتمعاً أسيوياً مركباً؟. النتيجة أن "مثل عاشق' جاء
بمثابة استعارة جلية وتحية معمقة لشخصيات أوزو، وللأحداث المختزلة في
نصوصه، مع فارق أن المعلّم الإيراني زاد من عيار تهكمه السياسي، الذي
لم يلتفت اليه نظيره الياباني كثيراً.
تقع طوكيو المعاصرة في "مثل عاشق" خارج اهتمام الابطال الثلاثة.
أنهم موجودون في محيطها وسيرورتها اليومية، لكن ليس كمحرك فاعل
للقاءاتهم وتعارفهم، بمعنى أنهم "سكان هامش" تحاصرهم الفردية
والأقصاء، رغم سعيهم الى تحقيق علاقات أكثر حميمية لا يقاربونها إلا
ضمن صفقات ينظمها أناس اخرون، او صدف غريبة التوقيت.
"يستأجر" البروفسور الجامعي (تاكاشي أوكونو) المستوحد بشيخوخته
وتقاعده فتيات يافعات، يأنس بهن فراغ حياته. وهي لقاءات لا تنتهي
بالضرورة بمواقعات جنسية. ذلك أن عمره خارج نطاق الشقاوة الجنسية. هو
رجل متفلسف، متباسط، وصافي النوايا. عبر صفقة من أحد طلابه القدامى
الذي يدير مقصفاً ليلياً، يستضيف شابة جامعية (رين تاكاناشي) في دارته
المليئة بكتب المعرفة، الامر الذي يغريها للاقتراب من تفاصيل أكثر عنه
وتاريخه، بينما يصبح العجوز مهووساً بشؤونها الشخصية التي تقوده الى
مواجهة مع الحبيب الشاب السمكري (ريو كاسي) المتحول من متيم الى منتقم
في نهاية الشريط، حينما يرمي حجراً وسط بيت العجوز، كاحتجاج رافض
وإعلان فشل شخصي.
يختزل مخرج "أين منزل صديقي"(1987) و"عبر اشجار الزيتون"(1994)
محيط العاصمة الذي لا نراه ألا بعيدا، بمواقع قليلة، يبان خلالها
اهتمامه الصارم بزمن الحكاية الذي لا يتعدى الساعات الأربع والعشرين.
يبدأ كيروستامي عمله ليلاً، وبلقطة طويلة داخل المقصف حيث نسمع شكوى
الشابة من لجاجة حبيبها، قبل أن تُرغم على 'السفر' الى الضواحي للقاء
العجوز. في هذا الفصل الحكيم، تكون الظلمة الخارجية حامية للتعارف
وحاضنة للجذوة التي تشتعل في كيان البروفيسور، وكأن به إحدى شخصيات
صاحب 'الجميلات النائمات' للكاتب ياسوناري كواباتا (1899 ـ 1972)
المنتشية بصفو دواخلها واحتكامها لقدرها الذاتي. يُبقي كيروستامي
بطليه داخل المنزل طوال فترة سينمائية، حيث نرصد المحيط الثري للعجوز،
مقابل فضول الشابة الذي يقودها الى تطامن داخلي. ومع المشاهد
النهارية، تكون السيارة (كما في فيلمه 'عشرة' 2002) هي المكان
الانتقالي الأمثل لصدامات الشخصيات الثلاث ومشاحناتها عند شوارع
المدينة والتي تُفجر هوساً عاطفياً مضمراً بين العجوز وفتاته، حتى
انتصارهما على أبن الشارع الذي لم يستوف حق عشقها، ولم يع تلك الفوارق
بين أميته وحسية الشابة التي رأت فيه ولهاناً معرقلاً لطلقها
الشبابي.
زياد الخزاعي