من تشابلن إلى شيربور: الحاجة إلى كلاسيكيات مهرجان أبوظبي
"الحذاء الأحمر" لمايكل باول وإيميريك برسبورغر منذ زمنٍ ليس ببعيد، كان جمهور المهرجانات السينمائية مقسوماً بين فريق الأغلبية المنحاز للأفلام الحديثة، وفريق الأقلية النادرة المكرَّس للقديم منها. أما من كان يحتفظ لنفسه بمقعد فى كلا العالمين، فكان يعتبر غريبًا بعض الشئ، مثله مثل جامع طوابع بريد أن يقتنى أوّل إصدار للطوابع من "ليسوتو" أو "أندورا". أعترف، وبشيء من الفخر حتى، بأننى واحد من هؤلاء (لا، ليس جامع الطوابع)، ولكنني غالباً ما أخوض نقاشات حادة مع النقاد السينمائيين الذين يعتقدون أن السينما بدأت مع جون كاسافيتيس. لحسن الحظ ان هذا الإنقسام بين عشاق السينما بدأ يتقلّص، ومنذ سنوات، انضم مهرجان أبوظبي السينمائي الى صفوف المهرجانات المتحمسة لترويج الأفلام المرمّمة. فقبل أي شيء، لماذا تجعل أفقك محدودا؟ ولماذا تحرم نفسك من أفقٍ ممتد بلا حدود؟
فلنواجه الامر، من منا يرغب فى مشاهدة "حدث ذات مرة فى الغرب" وقد تقلص إلى حجم شاشة تلفاز أو كومبيوتر؟ ربما لأن الكثير أصبح مُتاحاً الآن، صار المشاهد يميل إلى اختيار ما يعرفه من الأفلام، أي تلك التي أبصرت النور خلال حياته. بالنسبة إلى الكثيرين منا ممن كبروا قبل ظهور الأقمار الصناعية أو محطات الكايبل، ناهيك بالفيديو و البلوراي، كان العدد المحدود للقنوات التلفزيونية يتيح مشاهدة الأفلام الكلاسيكية بشكل دوري ومنتظم. فكنا ايام السبت والأحد من كل أسبوع، على سبيل المثال، نلتصق بالشاشة صباحاً لمشاهدة "لوريل و هاردى" وكوميديا "عصابتنا"، وفي وقت متأخر من الليل، ندلل أنفسنا بأفلام مارلين ديتريتش وبورت لانكاستر. لم يُنتج أي من تلك الأعمال فى أيامي، لكن ما تعوّدنا عليه كأطفال قد صنع، بشكل ما، صداقة عابرة للأجيال مع فن السينما، إذا جاز التعبير. كم يحزنني أن أرى الأطفال اليوم ملتصقين بقنوات الكارتون مثل " كارتون نتوورك " و " نيكولوديون" ، من دون الغوص على ماضٍ، يشكّل جزءًا من تراثنا الثقافى المشترك. ولهذا أحبّ أن أحتفي بمبادرات كالتي يقدّمها مهرجان أبوظبي السينمائي هذا العام من خلال فئة "الكلاسيكيات المرمّمة" التي تتضمّن بعض أعظم الأفلام في تاريخ السينما بنسخ رائعة مرممة، تبرهن تفوّق الشاشة الكبيرة بكل المعاني على مشاهدة فيلم على جهاز الآي باد.
هل أبدا بالتسلسل التاريخي للأحداث؟ قد يكون تشارلى تشابلن النجم الوحيد الذى تغلبت أفلامه على نفور الشخص العادي من الأفلام القديمة، ففيلم مثل "الشفاء" المنتج عام ١٩١٧، متعة خالصة. فعلى مدى ٢٤ دقيقة فقط يأخذ الفيلم المشاهد في رحلة فكاهية ممتعة، كما هي الحال دائماً مع تشابلن، لأن بساطته وأسلوبه المضحك يستحوذان على جوهر الكوميديا، خاصةً حركات جسده التي يستخدمها للتأثير على المتلقي بشكل بارع. أظن أن مشهد حجرة الملابس هو احد أطرف المشاهد فى أعماله المبكرة، مجسّداً براعته التي تضاهي راقص باليه. مع "الشفاء"، يعرض المهرجان فيلم قصير آخر يعد تحفة سينمائية هو "أسبوع واحد" (1920) لباستر كيتون، أحد أفضل أفلام جزيرة الصحراء على لائحتي. فيه، نتابع بطل الفيلم - وهو عريس جديد سيء الحظ - يُعد لنفسه بيتًا سابق التجهيز. لكن تم العبث بتعليمات البناء ولم تسر الأمور كما ينبغي. إن تعبيرات وجه كيتون الخالية من أى تعبير تمثّل العبقرية بعينها هنا ومن العجيب أنها كانت أولى بطولاته المطلقة. لقد تم ضمّ الفيلمين معًا فى برنامج مع ثلاثة أفلام قصيرة أخرى لبيار إيتيكس وهو ممثل كوميدي فرنسي من الستينات والسبعينات، تلاشت أعماله ب ما يدعو إلى لإحباط. اما الان، فقد تكفّل بعض إعادة التقييم ومبادرات الترميم الأفلان بإعادته مرة اخرى الى الضوء، متيحة له أخذ مكانه في جوار مواطنه الكوميدي الفرنسي الكبير جاك تاتي كواحد من أعظم نجوم الكوميديا على الشاشة الكبيرة.
أما إن كان ما تهفو اليه هو الألوان السخية فعليك بـ"لص بغداد". هذه المغامرة المذهلة هى فانتازيا جامحة مستشرقة بامتياز(يستحسن تنحية إدوار سعيد جانبًا قبل المشاهدة). وهو واحد من تلك الأفلام التي تستعيد الإنبهار الطفولي بالإستعراض وتجعل منه مغامرة مشوّقة لكل مشاهد. ربما تكون قد شاهدت لمحات منه على شاشة التلفاز، لكن لا يجب أن تفوّت مشاهدته على الشاشة الكبيرة. وبالقدر عينه، يجب ألا تفوتك مشاهدة فيلم "الحذاء الأحمر"، أنشودة حب مايكل باول إيميريك برسبورغر لبذخ الألوان وجمال الرقص. إن مشاهدة هذه الأفلام على الشاشة الكبيرة بأبعادها الحقيقية وتوهجها المنشود تجربة تسلب العقول، فهي مدهشة فى فنها ووقعها العاطفي الشديد.
نعبر بضعة عقود من الزمن فنصل إلى "اطلب الرمز ميم للقتل". كم من الناس يذكرون أنه ثلاثي الأبعاد؟ كان "هيتشكوك" من أوائل الذين استخدموا هذه التقنية، لكن قدرته العظيمة على السيطرة على الفضاء أظهرت قدرته الفذة على التحكم فى المستويات البصرية المختلفة بهدف خلق أقصى قدر من التوتر من خلال شئ بسيط مثل جهاز التليفون. بعيداً من المبالغة والإفراط فى استخدام هذه التقنية اليوم، استخدمها هيتشكوك بتعقل وحكمة، مدركًا أنها ليست اكثر من حيلة ولكنها حيلة يمكنه تكييفها بما يتناسب مع مواهبه الخاصة. أضف الى ذلك ان غرايس كيلي في الفيلم، فمن يستطيع أن يطلب اكثر من هذا؟
حسنًا، ربما تقول هل لنا أن نطلب أودري هيبورن؟ نعم، بكل تأكيد! وها هى فى فيلم "إفطار في تيفاني". من منّا مستعد للبكاء مجددًا على لحن أغنية "نهر القمر"؟ لا يهم إن كنت قد شاهدته سابقًا (أغلب الظن على شاشة التلفاز). فهل تكتفي بسماع أغنياتك المفضّلة مرة واحدة فقط؟ يختلف الفيلم بشكل ملحوظ عن النص الأصلي الذى كتبه ترومان كابوتي، إلا ان سحره و تأثيره العجيب لا يقاومان، اذ يفضح أمامنا الأحلام التى نخبئها كلنا فى داخلنا ومع ذلك نخشى ان نرعاها ونسعى إليها. من المؤكد أن عودة لقاء الحبيبين تحت المطر كان ولايزال من كليشيهات السينما، ولكن على الرغم من أنك تقول لنفسك أنك لن تبكي، إلا أن لماء العيون عقلاً خاصاً به.
بالحديث عن المطر، تم حديثاً ترميم فيلم "مظلات شيربور" ليكون مرة ثانية عرضًا مبهرًا واحتفاء أخّاذاً بالموسيقى والألوان. فيلم جاك ديمي الموسيقي، من انتاج ١٩٦٤، يتمتع بجمال فريد من الداخل والخارج معًا، ويشعّ بالأعجوبة المتجددة للوقوع فى الحب. وصفت "نيويورك تايمز" الفيلم بأنه واحد من أكثر الأفلام رومانسية في تاريخ السينما، وفي اعتقادي أن قليلين سيعارضون ذلك الرأي. فمن الصعب أن نقرر أيهم أكثر إدهاشًا: التصوير الأنيق فوق العادة، الموسيقى الساحرة، أم جمال كاترين دونوف الذي يخطف الأنفاس. سيكسر الفيلم قلبك و يشفيه في آنٍ. هذا هو جمال السينما.
جاي وايسبرغ