أفلام أولى لمخرجين عرب ساهموا في تأسيس الجديد السينمائي
لقطة من "عرق البلح" (1999) للمصريّ الراحل رضوان الكاشفبعد الاحتفاء بـ"نجيب محفوظ: رجل السينما" (2011)، وبـ"الذكرى الخمسين للسينما الجزائرية" (2012)، يستكمل "مهرجان أبوظبي السينمائي" في دورته السابعة (24 أكتوبر/ تشرين الأول ـ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013) مشروعه الثقافي ـ الفني هذا، باستعادة أفلام أولى لبعض أبرز المخرجين السينمائيين العرب، المنتمين إلى أجيال سينمائية مختلفة، الذين لم تكتفِ أعمالهم الأولى هذه بالإعلان عن مواهبهم اللافتة للانتباه، بل شكّلت أيضاً "دالّة هامة على مسيرتهم المقبلة، وتعدّت ذلك لتكون علامات فارقة في تاريخ السينما العربية". وذلك ضمن برنامج "الفيلم الأول ـ مختارات من الأعمال الروائية الأولى لمخرجين عرب".
في معاني الخطوة الأولى
استعادة أفلام أولى لمخرجين عرب محاولة للتعمّق، مجدّداً، بجذور سينمائية خاصّة بهذا المخرج أو ذاك، وللبحث في معنى البداية وأفقها وشكلها التعبيري. لذا، يُمكن القول إن اختيار تسعة أفلام عربية أولى لمخرجيها يندرج في إطار التنقيب النقدي في المعاني التي تتضمّنها الخطوة الأولى على الطريق الطويلة والصعبة لسينمائيين بات لبعضهم مكانة سينمائية رفيعة المستوى في المشهد العام، بينما لا يزال البعض الآخر، من الجيل الشبابيّ تحديداً، يبلور أفق تعاطيه مع السينما وقضاياها، ومع الحياة وأسئلتها. تسعة أفلام أقدمها إنتاجاً يحمل عنوان "عمر قتلته الرجولة" (1977) للجزائريّ مرزاق علواش، وأجددها "غير صالح للعرض" (2005) للعراقيّ عدي رشيد. بين هذين الفيلمين، لمعت أسماء، وتفوّقت أفلامٌ، وتأسّست أساليب جديدة في التعاطي مع الصورة والحياة، ومع الناس وحكاياتهم، ومع التفاصيل الإنسانية والفضاءات الجمالية والفنية والدرامية. بين هذين الفيلمين، بدا واضحاً أن التأسيس متمتّعٌ بلحظة جميلة، وببراعة في ابتكار لغات تتوالد من بعضها البعض، كي تتواصل مع بعضها البعض في رسم خارطة سينمائية عربية تتجدّد بين مرحلة وأخرى. بدا واضحاً أن الأفلام الأولى هذه تؤكّد على أن الفعل السينمائي ممتلكٌ مخيّلة وجرأة تدفعانه إلى خوض إحدى أصعب التجارب الإنسانية وأجملها: صناعة فيلم سينمائي، قادر على معاندة الأزمنة اللاحقة على إنتاجه، ومحتفظاً (في القوت نفسه) بنضارته السينمائية البديعة، بدليل أن فيلماً كـ"عمر قتلته الرجولة" لا يزال، بعد 36 عاماً على تحقيقه، مثيراً لمتعة المُشاهدة، ومحرّضاً على مساجلة نقدية تُشكّل امتداداً للمُشاهدة ولمتعتها. وهذا ما سيكتشفه مشاهدو الأفلام المختارة لبرنامج "الفيلم الأول".
تسعة أفلام هي، بالإضافة إلى فيلمي علواش ورشيد: "عرق البلح" (1999) للمصريّ الراحل رضوان الكاشف، و"أحلام المدينة" (1983) للسوريّ محمد ملص، و"حلفاوين، عصفور السطح" (1990) للتونسي فريد بوغدير، و"الرحلة الكبرى" (2004) للمغربيّ إسماعيل فرّوخي، و"صمت القصور" (1994) للتونسية مفيدة التلاتلي، و"الصعاليك" (1985) للمصريّ داود عبد السيّد، و"بيروت الغربية" (1998) للّبناني زياد دويري. ولعلّ اختيار "عرق البلح" في هذه اللائحة مثيرٌ للتساؤل لأنه، بحسب تاريخ إنتاجه، الفيلم الثاني للكاشف، علماً أن النصّ السينمائي الخاصّ به مكتوبٌ قبل أعوام من الفيلم الأول "ليه يا بنفسج" (1992). وإذا كانت البذور السينمائية الخاصّة بالكاشف موجودة في صلب اشتغاله السينمائي الأول في خانة الأفلام الروائية، إلاّ أن "عرق البلح" عكس متانة الاشتغال البصري، وقدّم نموذجاً لأسلوب المعالجة الدرامية، ولآلية الإخراج وإدارة الممثلين والتقاط المشاهد. فـ"عرق البلح"، المفتوح على أكثر من سؤال إنساني (هجرة الرجال، مصير النساء، الشكّ، الحبّ الموؤود، العلاقات المحطّمة، الرغبات المكبوتة، البنيان الاجتماعي الهشّ، إلخ.)، تمرين سينمائي لافت للانتباه بفضل براعة الكاشف في استقطاب التقنيات لمصلحة النصّ، وفي جعل النصّ مرايا ذات وتفاصيل يومية ومشاعر وانفعالات.
نضارة القديم
لم يكن "عمر قتلته الرجولة" (الاختيار الرسمي لمهرجان "كانّ" السينمائي، 1977) فيلماً عن الاستعمار والاستقلال، بقدر ما حافظ على نسق سينمائي في مقاربة أحوال شباب جزائريين مقيمين في خيبات، ومواجهين تحدّيات، وساعين إلى خلاص قد لا يكون من بطش المُستعمِر فقط، بل أيضاً من وقائع الأحوال التي تبدو كأنها عصية على الحلّ. السياسة، بمعناها الواسع، حاضرة في المبطّن داخل النصّ والحالات، تماماً كغالبية الأفلام الأخرى في هذا البرنامج، إذ أن "صمت القصور" ("التانيت الذهبي" من "أيام قرطاج السينمائية" 1994، وتنويه خاص بلجنة تحكيم "الكاميرا الذهبية" في مهرجان "كانّ" في العام نفسه، هو الذي اختير للمسابقة الرسمية في برنامج "أسبوعي المخرجين")، الذي يرتكز على عودة صبيّة إلى مكان طفولتها في قصر أحد البايات التوانسة، يؤشّر في خفايا النصّ وخباياه ما يُمكن اعتباره بمثابة ضوء ما على الفعل السياسي، أو على سطوة السلطة السياسية على حيوات أناس لا يرتقون إلى المرتبة الاجتماعية للبايات وأشباههم. عودة الصبيّة تفتح باب الذكريات القديمة، والعلاقات الخفية بين سيّد وخادمته، حيث الجنس مغلّف بقسوة السلطة، وحيث الصمت سيّد اللعبة، وحيث المخبّئ في الزوايا يتحوّل إلى نواة تفكيك هذه البيئة المتناقضة سلوكاً بين ظاهر ومبطّن. وهذا ما يكتشفه مشاهدو "بيروت الغربية" أيضاً (برنامج "أسبوعي المخرجين" في مهرجان "كانّ" 1998)، إذ أن فصول السيرة الذاتية والعائلية للمخرج نفسه، المستمدّة من ذكريات قديمة، تخرج إلى المشهد الإنساني اللبناني العام، في اللحظات الفاصلة بين ما قبل اندلاع الحرب الأهلية (13 أبريل/ نيسان 1975) وما بعد بداياتها الأولى. أي أن السياسة والحرب والصدامات العنيفة بين خصوم وأعداء تبقى كلّها في طيّات النصّ المبني، أساساً، على حكاية ثلاثة مراهقين (فتاة وصبيين) كانوا، عشية اندلاع الحرب، مقيمين في حيواتهم البسيطة والمتواضعة والبريئة والعفوية، قبل أن تنقلب الدنيا عليهم، فيجدون أنفسهم وسط أنقاض دمار المدينة (بيروت) وحواجز مزّقتها إلى شطرين، ومسلّحين وليل قارس وخوف وقلق وآلام، علماً أن التمزّق أصاب العائلة أيضاً، بسبب نزاع بين الوالدين، إذ راحت الأم تُلحّ من أجل السفر/ الهجرة/ الخروج من نفق الموت، بينما اعتبر الأب أن ما يجري سينتهي قريباً جداً، وأن ليست هناك ضرورة للهروب من أتون النار والدم والموت.
الانقلابات العسكرية السورية في خمسينيات القرن المنصرم، وفلسطين الخاضعة حديثاً يومها للاحتلال الإسرائيلي، والتحوّلات الجمّة التي شهدتها سوريا والمنطقة العربية والمجتمعات المحيطة بها، أمور منضوية في صلب الحكاية الأصلية لـ"أحلام المدينة"، الذي صنعه محمد ملص بلغة سينمائية شفّافة جمعت مناخات شعرية بأسلوب واقعي، وجعلت التفاصيل جزءاً من المتن الدرامي. وهذا كلّه من خلال سيرة عائلة دمّرتها السلطة الأبوية ـ الذكورية، وحطّمتها الأحلام المقتولة، وجعلتها التحدّيات اليومية نموذجاً لمعنى الانقلاب على الذات بصمت وقسوة. بينما ذهب "غير صالح للعرض" إلى الوقائع العراقية غداة سقوط صدام حسين ونظامه القمعيّ، مستنداً إلى رغبة مخرج في التقاط مجريات الأحداث المتعلّقة بالأيام الأولى لهذا السقوط، وفي سقوطه الذاتيّ أسير القلق والإحباط والدمار الداخلي المرير. ثنائية جعلها رشيد مدماكاً متيناً لبناء سينمائي يشي بقابلية المتخيّل لابتكار تجديد سينمائي في مقاربة اللحظة، من خلال كاميرا تلتقط بهدوء صُوَر الحكاية، فإذا بالتوليف يُساهم في ضخّ مزيد من القلق الممزوج بإيقاع "رتيب" لكنه مليء بالغليان المكبوت.
أساليب وحكايات
الغليان المكبوت في ذات الفرد جزء من "الرحلة الكبرى" ("جائزة لويجي دي لورنتيس لأفضل أول فيلم" في "مهرجان البندقية" 2004)، التي يجد الابن نفسه مضطرّاً إلى القيام بها رفقة أبيه الراغب في الحجّ من فرنسا إلى المدينة المنوّرة. رحلة مليئة بصراع بين الأب والابن، يبدأ كثيفاً ومتوتراً، وينتهي إلى نوع من مصالحة بين الابن وذاته أولاً، وبين الابن ووالده وعالم والده وحكاياته. رحلة في الجغرافيا، لكنها رحلة في الروح أساساً، وفي أسئلة الذات عن تفاصيل الحياة والعيش والعلاقات والأمزجة والإيمان والهجرة والمنافي، وغيرها من أسئلة وجودية يومية حيّة، أتقن فرّوخي تضمين النصّ بها، داخل طيات لغته السينمائية الهادئة في التصوير والتوليف تحديداً. وهذا كلّه على نقيض ما أنجزه داود عبد السيّد في "الصعاليك"، المتوغّل في الإسكندرية زمن التحوّلات المختلفة، من خلال شخصيتي صديقين صعلوكين يعيشان بفضل السرقة والأعمال الهامشية، قبل أن يعانيان عن كثب عملية التحوّل الجذري التي أصابتهما، ففرّقت بينهما عندما أصبحا ثريّين. اللغة السينمائية المعتمدة هنا تبدو، للوهلة الأولى، عادية وبسيطة تواكب مسار الصديقين ونهاية مصيرهما المشترك. لكن التعمّق في البناء الدرامي للنصّ، معطوفاً على العالم الذي ابتكره عبد السيّد من واقع الحال الإسكندرانيّ الإنسانيّ، جعل الفيلم مرآة اجتماعية أعلنت ولادة مخرج سينمائي جديد، ينهل من وقائع العيش ما يُغذّي مخيّلته بابتكار أصناف شتّى من الحكايات والمعالجات السينمائية اللاحقة، المتكاملة في غوصها الإنسانيّ في داخل البؤر المحطّمة والمهمّشة والشاهدة على خراب اللحظة، وتبدّل الأحوال. أما "حلفاوين"، فيكاد يغرف من المناخ نفسه لـ"الصعاليك"، لأنه يذهب إلى أعماق الأحياء الشعبية كي يسرد حكاية التفتّح والتحوّل الذاتيين، لكن في شخصية ابن الأعوام الأحد عشر لصبيّ يكتشف العالم الخارجي عبر حمّام النساء في الحيّ الشعبي الحلفاوين في تونس العاصمة. الجنس والمخيّلة والعلاقات الإنسانية النسائية، محاور تتداخل مع الحبّ الأول، والاكتشافات الأولى، والرغبات الأولى، والأحلام الأولى، داخل بيئة اجتماعية فقيرة، لكنها مليئة بالغليان الباحث عن مخارج لخلاص لا يأتي.
تسعة أفلام تعيد فتح نوافذ البدايات المليئة بالأحلام الموزّعة على معنى السينما وارتباطها الفني والثقافي والإنساني بالفرد وموقعه داخل الجماعة، وعلى مغزى التأسيس لسينمات عربية جديدة، تخرج من أطرها التقليدية، وتطرح الأسئلة كلّها، سواء تلك المتعلّقة بالمحليّ (أي داخل كل بلد عربي)، أو بالسينمائي (المفردات التجديدية في صناعة الصورة ومناخها وحكاياتها)، أو بالعام (قدرة هذه الأفلام، وإن تمّ إنتاجها في أعوام متفاوتة ومتباعدة عن بعضها البعض، على وضع ركائز مختلفة لسينما عربية مختلفة، ولمسارات سينمائية خصبة بالمعطيات الإبداعية الجميلة اللاحقة للأفلام الأولى التي صنعها هؤلاء المخرجون).
نديم جرجوره