"بوتوسي": عظمة الموت وتصحيح الضمائر
"بوتوسي" لألفريدو كاسترويتاالمخرج المكسيكي الشاب ألفريدو كاسترويتا موهبة لافتة للانتباه، كما أكّدت باكورته "بوتوسي" من دون مواربة. حكّاء سينمائي من طراز رفيع، ينضمّ إلى زميليه الآخرَين أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، كما في أفلامه "الحياة عاهرة" (2000) و"بابل" (2003) و"بيوتيفل" (2010)، وأمات إيسكالانتي في فيلميه "أولاد الزنا" (2008) و"هيلي" (2013)، والتي تشترك كلّها في فضح العنف ودمويته التي تخطف أرواح بشر بثمن بخس، وعبر تبريرات لا معنى لها سوى الإنتقام أو الإبتزاز أو تصفية الأعداء. أفلام هؤلاء المبدعين صرخات سينمائية ضد المهانات الإجتماعية والفساد السياسي والخراب الروحي، التي تحاصر شعباً بأكمله من دون بادرة لإنهاء المآسي.
يتّخذ كاسترويتا من قرية نائية، تقع في شمال البلاد وتدعى "بوتوسي"، موقعاً لمصائب ثلاث إرادات بشرية وقصصها، التي تترابط بقدرية غريبة عبر حادث يقع على طريق مهجورة. الأولى عن راعي ماعز عجوز يبلغ من العمر 82 عاماً، لم يُطلق رصاصة من مسدسه منذ أربعين عاماً. الثانية تستعرض يوميات أم تعاني عنف زوجها المتورّط بسرقة مال من عصابة نافذة تطارده، قبل أن تغتاله في نهاية المطاف، وتتعرّض الابنة الصغيرة إلى رصاصة قاتلة خلال وجودها في مكان خطأ هو ساحة معركة بين جنود يطاردون أفراد عصابة. الثالثة حول مزارع شاب يناضل من أجل حياة شريفة لعائلته الصغيرة ضد الإرهاب والقتل المجاني، بينما زوجته الشابة تخونه مع قائد عسكري مكلف باجتثاث الجريمة المنظّمة. في اللقطة الافتتاحية التي تحدّد مزاج الفيلم، نسمع بكاءها، ثم صوت طلقة نارية، وبعد ذلك، نرى داخل السيارة دماء على لوح الزجاج الأمامي، لنشهد منذئذ كَمّاً ضاغطاً من القسوة والموت والأسى والجثث.
عالم موبوء لا خلاص للفرد فيه سوى بتحاشي التورّط فيه، وهي الحكمة التي تتلبّس كينونة الراعي العجوز، الذي يشهد في الدقائق الأولى من عمل كاسرويتا عملية إعدام ثلاثة أشخاص في برية وحشية، وهو افتتاح يُذكّر بنظيره في فيلم الأخوين كوين "لا وطن للرجال العجائز" (2007). يكون قدر هذه الشخصية، التي خسرت ابنها في معركة عبثية، أن يلتقي لاحقاً بالزوج الشاب الذي هرب من أهالي قرية أرادوا إعدامه إثر صدمه صبياً منهم وقتله من دون عمد. يُشكّل لقاء الإثنين بظروفه العصيّة تطهيراً لهما، فمن ناحية الراعي الهرم، يتأكّد له أن عزلته هي حصانته ونظافة يديه من دم القتل المجاني الذي شهده قبل أيام، بيمنا يتحوّل "اعتقال" البطل الهارب إلى امتحان لمفهوم المهانة الشخصية. ذلك أن هذا الكائن الشريف والعفيف الأخلاق، المثابر على حصانة عائلته، يكون ميتاً على مرحلتين: بين هروب سيصبح أزلياً، ورصاصة قاتلة تفجّر رأسه خطأ على يدي امرأة ملتاعة بمقتل ابنتها وزوجها.
البطلة إستيلا (أداء قدير لأرسيليا راميريز) تمثّل الوجه الآخر للمأساة التي تبدأ من غرف منزلها، حيث تتعرّض لتعنيف زوجها واغتصاباته المتكرّرة، التي تجري تحت أنظار الإبنة الصموتة، قبل أن تنتقل إلى الشارع وتتحوّل. في نهاية الفيلم ذات الدلالة السياسية والساعية إلى تصحيح الضمائر، نرى البطلة وهي تستمع إلى الحكمة الطويلة التي تلقيها علينا والدتها، وتمثّل وجهة نظر المخرج كاسترويتا حول مآلات الحياة في المكسيك، حيث تقول: "هذا العالم مليء بالهراء. هناك من يقول إننا بحاجة إلى ثورة ثانية. فالناس لا يحثّون خطاهم، ولا يغنون، ولا يدافعون عن أنفسهم، ولا يعملون. كل ما أراه هو حرب فعلية مع إطلالة كل فجر. الحقوق والواجبات ضاعت كلّها. هذه البلاد أصبحت مقبرة بلا حدود".
زياد الخزاعي