خمسة أفلام تختزل مئة عام من السينما الهندية
"الرياح الحارقة" للمخرج م. س. ساتيوتنطلق اليوم عروض برنامج الإحتفال بالسينما الهندية بفيلم "الرياح الحارقة" (الخامسة والنصف مساءً في سينما فوكس 2) الذي أنتج عام 1974. سيشارك في العرض المخرج م.س. ساتيو أحد أهم السينمائيين في الهند.
اختار مبرمج مهرجان أبوظبي السينمائي رامان شاولا خمسة أفلام لتُعرض ضمن احتفالية المئوية الأولى لانطلاق السينما الهندية. ولم يكن اختيار خمسة أفلام فقط للاحتفاء بالتاريخ الطويل للسينما الهنديّة - والتي قدّمت العديد من الأفلام المتنوّعة على مدار تاريخها ولا تزال تقدّم الكم الأكبر من الإنتاج السينمائي السنوي – بالأمر السهل، بل شكّل تحديًا خاصًا استدعى أن تكون هناك رؤية ثاقبة وواضحة بشأن الأفلام المُختارة للاحتفاليّة، لضمان تعبير هذه الأفلام الخمسة عن سحر ورؤية وإبداع وتاريخ السينما الهنديّة.
ولكن، ما هي القواسم المشتركة التي تجمع هذه الأفلام الخمسة؟ القاسم الأول يكمن في تاريخ إنتاج هذه الأفلام، فجميعها أُنتجت بين خمسينات وثمانينات القرن الماضي، بما هو العصر الذهبي للسينما الهنديّة وخاصةً في بومباي ومناطق أخرى. وتشمل الأفلام: "الظمأ" (1957) للمخرج الكبيرغورو دوت، فيلم "خيط الذهب" (1962) للمخرج البنغالي ريتويك غهاتاك والذي يتنمي لهذا العصر الذهبي للسينما الهنديّة، ويستوحي أحداثه من السنيما
الشعبية في بومياي وبنغال، إلى فيلمي "حيرة" (في عقلين) من إخراج ماني كول و"الرياح الحارقة" للمخرج م. س. ساتيو وكلاهما من إنتاج العام 1973. يعود الفضل لغهاتاك وكول في ريادة المرحلة المبكرة من السينما الهندية المستقلّة المدعومة حكوميًا. أما الفيلم الخامس، فهو "الكارثة" للمبدع جانو باروا وهو يُعد أحد ابرز كلاسيكيّات السينما الهندية، وقد تم إنتاجه أثناء انطلاق مرحلة السينما الهنديّة المستقلّة.
ريتويك غهاتاك الذي لم يأخذ حقه من التقدير العالمي، شخصيّة سينمائية مؤثرة تركت بصمتها الواضحة على فيلمين في القائمة، أولهما رائعته " خيط الذهب" المستوحى من جماليات السينما البنغالية التي ينتمي إليها غهاتاك، وفيلم "حيرة" (في عقلين) لتلميذه البارع ماني كول.
إلا أن القاسم الأهم بينها جميعًا هو عرضها لأبرز القيم الهنديّة، كالحق والأمانة والبحث الدائم عن الحقيقة، سواء أكانت مستمدّة من الواقع أو كانت حقيقة شاعرية جمالية تلهم المشاهدين. ولعل الفيلم الهندي الأوّل في تاريخ السينما الهندية، "راجا هاريشاندرا" (1913)، أكبر دليل على ذلك، إذ تمحورت أحداثه حول أكثر ملوك الهند أمانةً وصدقًا، وهي قصة مستمدة من الموروث الشعبي الهندي. وهكذا، ولدت السينما الهندية من رغبة ملحة في البحث عن الحقيقة والأمانة، وعن حاكم عادل يؤسس مملكة قائمة على أسس العدالة والمساواة بين شعبه. ولا شك في أن كلاَ من الأفلام الخمسة يمثّل لحظة فارقة في إطار سعي السنيما الهندية نحو إبراز هذه القيم والبحث المستمر عن الحقيقة.
وقد اعتبر نقاد كُثُر من بينهم الناقد الهندي البارز إقبال مسعود أن فيلم "الظمأ" هو أول فيلم هندي يعبّر عن نقد واضح وصريح للظروف التي كانت تمرّ بها الهند تحت حكم رئيس الوزراء الهندي آنذاك جواهرلال نهرو. وقد استوحي الفيلم قصته من أكثر شخصيات السينما الهندية شعبيًة – شخصية ديفداس الأسطورية، وهو شاب شديد الحساسية عجز أن يواكب التناقضات الثقافية الصارخة التي يعج بها المجتمع الهندي وعجز أن يحب أيّ من النساء اللواتي مررن في حياته، وهو ما يؤدي به إلى إدمان الخمر. ويؤدي المخرج الكبيرغورو دوت دور الشاعر المنبوذ ويغني أثناء الفيلم عددًا من أشهر الأغاني في تاريخ السينما في بومباي، بهدف انتقاد طمس وغياب وضياع الهويّة الوطنية لدى نخبة الهند من الأثرياء. وتُعد أغنية "أين أولئك الفخورون بالهند" ابرز أغنيات الفيلم المعبّرة عن خيبة أمل دوت في بنى شعبه.
أمّا فيلم "خيط الذهب" للبنغالي ريتويك غهاتاك، فهو يُعد الفيلم الثالث ضمن ثلاثيته المعنيّة بموضوع تقسيم الهند، ويعتبر العديد من النقاد أن هذا الفيلم هو رائعته السينمائية الأبرز في مشواره الفني. ويركز الفيلم على الضياع التدريجي للهوية الوطنية لدى أحد اللاجئين المفكرين، وسقوطه في فخ الشك والانهيار النفسي جرّاء تقسيم الهند البريطانيّة عام 1947 إلى الهند وباكتسان. وكونه مولوداً في بنغال الشرقيّة قبل أن ينتقل إلى باكستان عام 1947، فقد عايش غهاتاك ذكريات تقسيم الهند واعتبره خيانة عظمى للقيم والأفكار الوطنية وصراعها لنيل الحرية والاستقلال من الاستعمار ومخلّفاته.
تقسيم الهند محور فيلم آخر في القائمة، هو "الرياح الحارقة" للمخرج م. س. ساتيو والذي يروي تفكك اسرة مسلمة من شمال الهند مع اقتراب حدوث التقسيم، ويعتبر الفيلم أحد أصدق التجارب السينمائية في عرض قصص الأُسَر المسلمة ميسورة الحال في تاريخ السينما الهندية، حيث يصوّر الفيلم مدى تفكك الأسرة بسبب الاهتمامات والمشاعر المتناقضة والخيار الصعب الذي كان على جميع أفرادها اتخاذه، بين البقاء في الهند أو الهجرة إلى باكستان.
وإلى شمال الهند، يأخذنا أيضًا فيلم "حيرة" لماني كول، والذي تدور أحداثه في مدينة راجاستان الهندية، ويركزّ على الإنعزال المُميت الذي عاشته السيدات في المنازل التقليديّة في هذه المدينة، من خلال حكاية زوجة يسافر زوجها في رحلة عمل، لتجد نفسها فريسة للوحدة والفراغ. وبعد أيام، يقع في حبها شبح يتخذ مظهر زوجها الغائب ويقرر العيش معها مما يؤدي إلى أحداث وتبعات مفزعة يصوّرها الفيلم باقتدار. وأخيرًا، يأتي فيلم "الكارثة"
للمبدع جانو باروا، والذي أُنتج في أواخر فترة السينما الهنديّة المستقلّة وحاز جائزة من مهرجان لوكارنو عام 1988. يناقش الفيلم تفشي الفقر في مختلف أنحاء الهند، وتحديدًا في ولاية اسام حيث تدور أحداثه. ويعد من الأفلام التي استطاعت طرح نقد شجاع للظروف البائسة التي يعيشها الفقراء في أحياء الهند الفقيرة، على خلفية استعراض الحكومة الهندية آنذاك إنجازات الثورة الخضراء بكل فخر واعتزاز.
تشكّل هذه الأفلام رحلة طويلة وتحمل رسالة هامة بأن الهند المستقلّة لم تولد إلا ولادة قيصرية شابتها الصعوبات والأزمات والمشاكل، وهي وجهة نظر قدّمها نخبة من السينمائيين المفكّرين في الهند لعامة الشعب، تحوّلت لتظاهرة شعبية حقيقية استقطبت ملايين الناس المعارضين لسياسات الحكومة الهندية آنذاك. وتعد هذه الأفلام تحف سينمائية تمزج وجهة النظر النقدية بالقصص الواقعية والمشاعر الجيّاشة التي تزخر بها هذه الأفلام الخمسة. ووسط
كلّ الأزمات والمشكلات والإطار الميلودرامي الذي يظهر جليًا في هذه الأفلام الخمسة، يظهر لنا صوت المواطن الهندي بوضوح، الذي لم يحقق له الحاضر أيّ من آماله وتطلعاته وطموحاته، ولم يستطع أن يطمس طموحه بناءً على معطيات المجتمع، لتظهر لنا محاولاته المستمرّة لفضح الأكاذيب الدعائية التي تشير أن الهند لا تعاني من أيّة مشكلات أو أزمات، وكأن هذه الأفلام تريد أن توجّه رسالة لجموع المشاهدين مفادها أن الهند لا تزال تنتظر حاكمها الأسطوري العادل، وأن رحلة البحث عنه مستمرّة ولم تتوقّف.
*يعرض الفيلم بحضور مخرجه م. س. ساتيو ويلي العرض جلسة حوار مع الجمهور
كوشيك باوميك