"بستاردو": عالم المهمّشين ومهانة الخضوع لابتزاز الأقوى
Bastardo by Nejib Belkadhiلم يكن "بستاردو" (مسابقة "آفاق جديدة") للتونسي نجيب بالقاضي شبيهاً بفيلمه السابق "VHS كحلوشة" (2006)، المليء بالسخرية والضحك والجوانب المدهشة بكوميديتها المليئة بحس إنساني رفيع المستوى. ذلك أن جديده هذا موغل في تفاصيل الواقعية المرّة، وفي حيوات أناس مهمّشين ومقيمين في الفقر والتمزّق وانسداد الأفق، وفي فضاءات مفتوحة على أسئلة الوجود والهوية والتبدّل الاجتماعي ـ الثقافي ـ السياسي في تونس، من دون أن يتجاوز حدود صناعة فيلم روائي طويل متماسك البنية الدرامية، والحبكة الإنسانية، ويوميات البؤس الشديد. وإذا بدأ الفيلم من عنوانه (الذي يعني "اللقيط")، فلأنه بُني على تلك المفارقة الإنسانية الناشئة من واقع أن الشخصية الرئيسية عُثر عليها بين أكوام الزبالة عندما كانت في الأسابيع الأولى لولادتها، قبل أن تُصبح شخصية نافذة في بيئتها، فتواجه تحدّيات لم تخطر على بالها من قبل. ولأن الزمن الراهن مفتوح على التقنيات، فقد اختار نجيب بالقاضي أجهزة التلفون المحمول كركيزة درامية توزّعت عناوينها على ألغاز ومفارقات ومسارات مختلفة.
لم تعد السخرية المريرة والضاحكة سمة نجيب بالقاضي في فيلمه هذا، وإن استعان بها من وقت إلى آخر كمختبر لهذا الكمّ الهائل والمذلّ من المهانات الفردية والجماعية. ذلك أن القوّة الدرامية للموضوع احتاجت إلى شكل آخر للمعالجة، من دون أن تُلغي من قاموسها السينمائي بعض تلك المفردات اللاذعة بانتقادها، والساخرة بمضامينها. وإذا بدأ السرد من لحظة العثور على الطفل اللقيط في مستودع للزبالة في حيّ شعبي فقير، فإن نهاية هذا السرد حرّرت الخاتمة من صدمة الموت وما يُخلّفه من آثار سلبية، لأنها ذهبت بسخريتها إلى حدّ كبير، من دون ثرثرة أو خطابية أو علانية، بل بواقعية ورمزية مثيرة للضحك والخيبة والمرارة معاً. وبين هاتين اللحظتين (البداية والنهاية)، حافظ "بستاردو" على نسق درامي ميتن الحبكة، بفضل سيناريو مكتوب بحرفية ووعي يختزل فيكثّف الحدث واللحظة الدرامية، ويبوح قارئاً في حياة الناس أوجاعهم وانقلاباتهم ورضوخهم وهامشيتهم. ومحسن بستاردو (عبد المنعم شويات)، الهامشيّ في عالم المهمّشين، يتحوّل إلى أحد أبرز "وجهاء" المنطقة المدقعة الفقر، لقدرته على جلب "جهاز للإرسال الخلوي"،ما قضى على الاتصال الأرضي الذي كان يستفيد منه أحدهم. لكن المواجهة الأكبر ستكون مع أم وابنها المسيطرين على المنطقة كعصابات المافيا، واللذين يفرضان ضرائب على الناس جميعهم، قبل أن تحتدم المعركة بينهما وبين محسن.
الصراع من أجل السيطرة على المنطقة لن يكون الموضوع الوحيد في فيلم مبني على عالم المهمّشين، ومصنوع بمفردات سينمائية تجعل التوليف مثلاً جزءاً من عملية السرد، وتتلاعب جمالياً بالإضاءة كمن يضيف لمسات أخرى على كمية الشقاء الفردي في هذا المجتمع المليء بنماذج حيّة، وبتصرّفات واقعية. فمن الصراع على المنطقة إلى لغز تلك الصبيّة التي ترشح حشرات (حالة خارقة للطبيعة)، ومن الحب المفقود والجنس المعلّق على اللذّة العابرة إلى حكايات الأصالة والتمرّد على الجميل، تنساب مسارات "بستاردو" في صُور متكاملة وبهية لا تخلو من سخرية، لكنها تبقى أسيرة التنقيب في المعاني المختلفة للحياة. ولأن محسن لم يشي بزميلته في مصنع الأحذية، التي سرقت أحذية وهربت ولم تستطع الإدارة تثبيت فعل الجرم هذا، بات الشاب، الذي عثر عليه العم صلاح فأخذه تحت رعايته، هائماً بها، يسأل عنها ولا تردّ عليه، خصوصاً أنها أصبحت أكبر تاجرة أحذية فخمة. لكن التحوّل الذي يُصيب المجتمع التونسي، يظهر بلقطات قليلة معبِّرة بشكل بسيط ومتواضع عن عمق الخراب المقبل.
مع صديقه خليفة (توفيق البحري)، يبدآن تلك الرحلة الغريبة في تغيير الواقع، ويواجهان معاً سلطة القمع والفساد والشهوة الدائمة للعنف والمال، والخضوع القاتل للفقراء أمام تلك السلطة وجبروتها. لكن هذا كلّه لا علاقة له بتغيير أحوال الناس والبيئة المقيمَين فيها، لأنهما أرادا ربحاً مالياً يعينهما على الخروج من نفق الفقر والمهانة. في رحلتهما هذه، يضربهما الموت، من دون أن يستسلما للمذلّة مجدّداً. كل شيء سيتغيّر، كما أن محسن سيتغيّر أيضاً في اتّجاهات متداخلة وقاسية وغير واضحة المعالم، قبل أن يبلغ، هو أيضاً، خاتمة تجعل الضحكة المريرة والقاسية والمُقلِقة مرآة مستقبل ما يُبنى على راهن مسحوق ومدمَّر، وعلى حاضر مثقل بألف همّ وحكاية معلّقة.
نديم جرجوره