"القيادة في القاهرة": الحياة اليومية بعيون سائقي السيارات
"القيادة في القاهرة" لشريف القطشةأفضل فيلم من العالم العربي/ مسابقة الأفلام الوثائقية - يتمتّع الفيلم الوثائقي المصري الجديد "القيادة في القاهرة" (مسابقة الأفلام الوثائقية) لشريف القطشة بميزات سينمائية ودرامية متنوّعة، تبدأ بالخطّ الفني التصاعديّ، المرتكز على وقائع يومية مستمَدّة من أعماق البيئة الاجتماعية المصرية عبر عيون سائقي السيارات العمومية والخاصّة، وينتهي عند التحليل التفكيكي لهذه البيئة نفسها، وللتحدّيات التي يواجهها المواطن المصري يومياً، وللمناخ السياسي والاجتماعي والقضائي العام. كأن عيون سائقي تلك السيارات كاميرات مسلّطة على تفاصيل جمّة، تحاكي رغبات مكبوتة بشيء من السكينة المفقودة، وتبوح بمكنونات نفوس رازحة تحت ضغط الفوضى والفلتان والعشوائية، وتخترق المستور عبر سيارات الأجرة أو "الملاّكي".
لا يرتبط "القيادة في القاهرة" بـ"الربيع العربي"، ولا بـ"ثورة 25 يناير"، ولا بالتحوّل المرتبك والمهمّ الذي تعيشه مصر ودول عربية عديدة. فهو، منذ اللحظات الأولى، يؤكّد أن ما سيُقدّمه تمّ التقاطه من الشارع المصري قبل بداية الحدث العربي الراهن، عندما كان عدد المقيمين في القاهرة يُساوي 20 مليون نسمة، بينما بلغ عدد السيارات فيها 14 مليوناً. لم يكن تحديد هذه الأرقام في بداية الفيلم عبثياً، أو مرتبطاً فقط بإحصاء ما، لأن الأرقام تعكس واقعاً مأسوياً تجلّى واضحاً في السياق الدرامي اللاحق، وفي الحكايات التي رواها أناس يعيشون يومياً في قلب الشارع المصري، ويحتكّون بأنماط مختلفة من الصدامات والنزاعات الخفية، وبأشكال متنوّعة من الناس والسيارات والعلاقات. أي أن تحديد الأرقام مطلع الفيلم تمّت ترجمته في التقاط النبض الإنساني العام في الشارع، وفي متابعة تفاصيل العمل، والعلاقات الناشئة بين السائقين، ومعاني الـ"تزمير"، وكيفية سير الأمور لحظة حدوثها، بالإضافة إلى القراءة المبطّنة للمجتمع برمّته، لأن هؤلاء السائقين ظهروا في الفيلم مرايا حقيقية لمآزق تبدأ بزحمة السير، لكنها تتجاوز هذه الزحمة إلى أنماط العيش، كالفقر والألم والتمزّقات، والقلق الدائم من حوادث السير بسبب الفلتان المتحكّم بالقيادة، والخوف من المخفيّ في هذا المشهد اليومي الذي يعيشه كثيرون، كما من آلية تطبيق القوانين، إن كانت القوانين الموضوعة قادرة على حماية الناس جميعهم من كل خطر محدق. ولأن هؤلاء السائقين، على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والاقتصادية والمهنية (هناك سائقو سيارات أجرة يحملون شهادات جامعية في اختصاصات عديدة)، شكّلوا منعطفات جذرية تفضح السائد، وتقول أوجاع الناس وحكاياتهم، وترسم صُوراً ملوّنة عن البؤس والشقاء اليوميين، أو بعض هذا كلّه على الأقلّ، فإن "القيادة في القاهرة" يتحوّل سريعاً إلى مرآة تعكس حالات وتفاصيل، وتقول شيئاً من البناء السياسي والثقافي والتربوي العام.
لكن عدم ارتباط الفيلم الوثائقي هذا بالربيع العربي لا يعني أنه سيبقى بعيداً عن تلك اللحظة. ففي الجزء الأخير منه، يُصبح التوغّل في ثنايا البيئة الاجتماعية مدخلاً إلى العوالم نفسها "بعد" الحراك الشعبي. بعيداً عن هذا أو ذاك، فإن مفاتيح عديدة للبيئة الاجتماعية يُقدّمها الفيلم إما بهدف السخرية المرّة من هذا الواقع، وإما بالتزامه سرد الوقائع كما هي. فزيارة الرئيس الأميركي باراك اوباما إلى العاصمة المصرية مطلع يونيو/ حزيران 2009، تُصبح جزءاً من الفيلم، لارتباطها المباشر بمضمونه الدرامي: غياب زحمة السير نهائياً (شوارع خالية من روّادها المعتادين)، متابعة خطاب الرئيس الأميركي عن الإسلام والعلاقة بين الغرب وبينه، مواقف بعض سائقي سيارات الأجرة من الزيارة والواقع والخديعة التي يُمارسها النظام الحاكم أمام ضيفه (سخر أحد السائقين من غياب زحمة السير، قائلاً إنه كان جديراً بالرئيس الأميركي أن يقع ضحيتها كي يُدرك كيفية عيش المصريين مثلاً). هناك أيضاً حضور بعض رجال الشرطة المعنيين بشؤون السير، ورواياتهم الخاصّة بقوانين السير وكيفية تطبيقها، وعلاقاتهم بسائقين مخالفين، خصوصاً أولئك الذين يقودون الشاحنات مثلاً. هناك أيضاً النزاع اليومي بين سائقين ورجال شرطة السير حول مسائل مختلفة. أما بخصوص التربية على احترام قوانين السير وإشاراته، فقد اختار شريف القطشة لقطات مُصوّرة داخل إحدى المدارس، حيث تُلقّن التلميذات، بإنكليزية ركيكة وجمل مغنّاة، ماذا تعني إشارات السير. بالإضافة إلى هذا كلّه، فإن القطشة لم يتغاضَ عن إحدى مشاكل المواطنين مع بعض "قوانين" السير، إذ يمنع هذا الـ"بعض" سيارات الشحن الصغيرة (الفانات) من التجوّل في أحياء أو شوارع معيّنة، ما يفرض على المواطنين الانتقال إلى أماكن تواجد هذه السيارات للحصول على مشترياتهم من أثاث منزلي أو ما شابه ذلك.
إشارات كثيرة يكشفها "القيادة في القاهرة" لشريف القطشة، تعكس قسوة الحياة اليومية في هذه المدينة المكتظّة بالناس، من خلال السائقين.
نديم جرجوره