"خبىء وجهك المبتسم": مشاعر إنسانية عصّية على التسوية
خبَىء وجهك المبتسم لدانيال باتريك كاربونالعنوان مأخوذ من تعليق يوجّهه بتأنيب حاد والد البطلين المراهقين إريك (راين جونز) وتومي (ناثان فارنسون)، عندما ترتسم ابتسامتان على شفتيهما بشكل غير متوقّع، بينما يعيش الجميع حالة حزن على موت اليافع إريك، الذي سقط من حافة جسر مهجور، وقُتل عند حافة نهر في حادث ملتبس، لن يكشف فيلم المخرج كاربوني أبداً عن تفاصيله. على هامش هذا الموت، تشهد المستعمرة النائية الواقعة عند حافة غابات سحرية في مقاطعة سيكس ـ نيوجيرسي، كمَاً زاخراً من العنف بين صبيتها. يصبح الأمر متناقضاً بين بهاء طبيعة غناء لا يقاوم المرء إخفاء هوسه إزاء بكارتها وخضرتها وعظمة خالقها، وكائنات بشرية تجول في براريها ذات صيف، ولا تعرف كيف تزجي النهارات الصيفية الطويلة سوى بإرتكاب حماقات متتالية، إحداها قاتلة.
تزخر باكورة كاربوني بالقسوة والغلاظة. أبطالها خشنون على الرغم من يفاعاتهم. يتحايلون على أنفسهم بحثاً عن ملء فراغ، ودفع حالات لا تحصى من الملل. إنهم متبطّرون، يؤذون بعضهم البعض، ويملكون من الوقاحة الكثير. ليس الفيلم بحثاً سوسيولوجياً بقدر ما هو تمعن هادئ، يقترب من واقعية شعرية، في سلوك غير سوي وأخلاق لا ترعووي من توجيه الضرر نحو آخرين مسالمين. الحاسم هنا، أن كاربوني لا يسعى إلى تعميم حكايته، باعتبارها نموذجاً للشّدة التي تكتظّ بها مدن الولايات المتحدة وتجمعاتها الحضرية، بل فصولاً من ذاكرة طفولة وشقاواتها، واستدعاء فظاظات تفيض بها الطبيعة. يقول في حديث صحافي لـ"موقع مهرجان ترايبيكا السينمائي" الأميركي، حيث استقبل بحفاوة كبيرة: "سعيت إلى أن أروي حكاية فتيان وشباب، بطريقة أقرب إلى الأمانة مما عايشته سابقاً. أردت أن أصنع فيلماً حول مرحلة شبابي كما أتذكرها. يستند بعض جوانب النص إلى فصول من طفولتي، بما في ذلك علاقتي بشقيقي، ومشهديات الطبيعة، ومثلهما تلك اللحظات الصعبة التي ناضلت من أجل إدراكها في أوقات مختلفة من حياتي". هذا يفسّر أسلوبية الفيلم الذي يتطلّب جَلَداً من مُشاهده كي يستوعب حقيقة أن ما يراه ليس حكياً عادياً، بل إنه في الواقع استعادات دقيقة لحيوات خطفها الزمن، وانتظرت السينما كي تُبّث فيها الحياة من جديد. يضيف كاربوني: "كان مصدر إلهامي ذكريات ضبابية، بدأت تتوضّح كلما حاولت أن أضفي معنى على الماضي من وجهة نظر رجل بالغ. بطبيعة الحال، كثير منها لا يزال من دون مغزى مفهوم، ولن يُفهم أبداً. ما أحبّه في مرحلة المراهقة، أنها نوع من أحجية غير قابلة للتفسير". لذا، فإن مقاطع من النص لا تكشف مدلولاتها بسهولة، ولعل أبلغها حين يسأل أحدهم البطل إريك: "هل فكّرت بالموت؟ أعني أن تُقتل أو تنتحر؟"، ليضفي هذا البيان مزاجاً سينمائيا قاتماً على هذه الذمم الهائمة بين أجواء من بطر اجتماعي، وضجر يومي، وأسئلة صعبة، وإيمان مغيّب، وتصرّفات متضاربة لا تملك حنوّها. هذا مجتمع ذكوري بامتياز، حيث لا حيّز أبداً للأنثى، مُحاصر بالغضب الدفين والعناد والتأفف والإستعلام الناقص عن الإجابات حول الموت وفكرة الفناء. هذه الأخيرة تتمظهر في أشكال عديدة. فبالإضافة إلى جثة إريك التي يكتشفها الأخوان، هناك جثث لحيوانات وطيور متفسخة، تتعرّض على أيديهما للعبث الذي يُذكّر، في هذا المضمار، بفيلمين هوليووديين شهيرين هما "قف بجانبي" (1986) لروب راينر و"الخور الرئيسي" (2004) لجاكوب أرون إيستيس، وإلى حدّ ما فيلم البريطانية لين رامسي "صائد الفئران" (1999)، من حيث مقاربتها إلى وقائع طفولة شقيّة، واكتشافها عوالمها بأساليب سينمائية مميّزة، وسرد حكاياتهم من وجهات نظرهم الخاصة. فيلم كاربوني المستقلّ الإنتاج، الذي أنجز بميزانية متواضعة، اختبار سينمائي مميّز وثري حول مشاعر إنسانية عصيّة على التسوية، لا تتحمّل إجابات جاهزة بشأن الصواب والإثم.
زياد الخزاعي
*يعرض الفيلم بحضور مخرجته دانيال باتريك كاربون
العرض الثاني: الخميس 10/31/2013 18:30 فوكس 1