"حياة ساكنة": العيش على هامش الحياة
"حياة ساكنة" لأوبيرتو بازوليني جائزة اللؤلؤة السوداء/مسابقة آفاق جديدة- لوهلة أولى، يخال مُشاهد "حياة ساكنة" لأوبيرتو بازوليني نفسه أمام متتاليات تكاد لا تنتهي، عن الحياة الروتينية اليومية لجون ماي (إدي مارسن)، العامل في بلدية بلدة صغيرة في جنوب لندن، والمعني بمتابعة مراسم دفن عجائز يموتون وحيدين. المتتاليات الأولى تعكس تطابقاً صارماً في التفاصيل اليومية التي يمارسها ماي، من منزله إلى وظيفته، ومن وظيفته إلى منزله، مروراً بمحال يتبضّع منها حاجياته الغذائية العادية جداً، والمتشابهة جداً. كما أنها تُقدّم عوالم متفرّقة عن المناخ العام الذي يعيشه الرجل الوحيد والمنعزل، ابن الأعوام الأربعين. لكن، شيئاً فشيئاً، يتفتّق المشهد عن أعماق إنسانية مفتوحة على أسئلة الحياة والموت، والعزلة والعلاقات، والوظيفة والتشرّد، والانكسار والخيبة، والصمت والتأمّل، وغيرها من العناوين التي تزنّر يوميات الناس عادة، والتي تحاصر جون ماي من الجهات كلّها، قبل أن يُصاب بـ"لوثة" التمرّد التدريجي على الذات والمحيط والآخرين، في إحدى لحظات التجلّي الفردي الفاقع بجماليته وحُسن إطلالته.
تتّسع دائرة الحياة اليومية هذه لجون ماي لأسئلة كثيرة، ولحكايات استقاها من الملفات الخاصّة بالراحلين، ومن الصُور الفوتوغرافية المنتمية إلى أعوام متفرّقة، ومن هوامش يُلملمها الرجل من هنا وهناك، كي يبني عالماً مستقلاّ بحدّ ذاته، يعينه على إقامة مراسم لائقة لجنازة هؤلاء الوحيدين والمهمّشين، ولدفنهم ضمن الأصول المتّبعة في عقائدهم. ولأن أوبيرتو بازوليني (مواليد الأول من مايو/ أيار 1957، في روما) متورّط بتقديم الهوامش كتورّطه في سرد المتن الحكائي الأصلي أيضاً، توغّل عبر الكاميرا في مسام كل لحظة، نافضاً عنها كل غبار، ودافعاً إياها إلى البروز كمفردة أساسية في صلب النصّ. فالكاميرا تضجّ بالتفاصيل الصغيرة التي تقول أشياء عديدة عن جون ماي وعالمه الخاص، وعن وظيفته وسلوكه المهني، وعن علاقاته بالآخرين، كما بالحياة والموت. والملامح، المتعلّقة بالوجه والجسد والحركات وكيفية السير على القدمين ونوعية الملابس التي يرتديها وألوانها وغيرها، تُصبح نواة الحكاية والذات معاً، كأنها مدخلٌ إلى ما يرغب بازوليني في تحقيقه: قراءة معاني العزلة داخل إطار الجماعة الذاهبة إلى موتها حتماً.
في الظاهر، يبدو جون ماي رجلاً غريب الأطوار، لشدّة التزامه ثوابت وضعها لنفسه ولم يحد عنها أبداً. لكن غرابة الأطوار هذه لا تُلغي حساسيته التي أتقن إخفاءها في ملامحه القاسية، والتزامه ثوابت يومية جعله بارعاً في تأدية وظيفته كما يجب. منذ البداية، يظهر جون ماي في موقفين "قد" يثيران الضحك في الثواني الأولى، لكونهما متشابهين في مرافقته تابوتين لراحلين اثنين في كنيستين وطَقَسين مختلفين، وفقاً لنوعي الموسيقى المعتَمَدين في مراسم الجنازة. بداية "مُضحكة"، تتبدّد سريعاً في ثنايا الوظيفة التي تتطلّب مثل هذا النوع من الصرامة، وربما مثل هذا النوع من الأطوار الغريبة أيضاً. والتكرار الذي ينقل إلى الشاشة الكبيرة بعض التفاصيل الأساسية في يوميات جون ماي، يحافظ على جماليته السينمائية في مقاربة الحالات والانفعالات الخاصّة به، وفي تفكيك البنى الجسدية والمعنوية والروحية التي صنعته ولا تزال تصنع حياته. ولعلّ المثير للانتباه كامنٌ في ذاك التضاد بين عالمي الموتى والأحياء الذي يعيشه جون ماي بشكل حاد: فهو لا يُظهر أدنى انفعال إزاء كل رحيل، ولا يكشف مشاعره ومواقفه إطلاقاً أمام أحد (أساساً لا أحد له، باستثناء مديره الذي ينتقم ماي منه لاحقاً بطريقة طريفة). وهو قانع بهذا (أو ربما هذا ما يُظهره)، وحريصٌ على إتمام واجبه بالشكل الأفضل والأرقى، مع أنه لا يرتبط بالراحلين بأية صلة.
كل شيء ينقلب في المسار التقليدي لحياته، عندما يُصرّ جون ماي على دفن عجوز كان جندياً في "حرب الفوكلاند"، التي اندلعت بين بريطانيا والأرجنتين بي 2 أبريل/ نيسان و14 يونيو/ حزيران 1982. كانت مهمته الأخيرة، وكانت الحلقة التي يُفترض بها أن تختم مساره المهني. لكنها كانت أيضاً بداية مرحلة جديدة، تمثّلت بلقائه ابنة العجوز المتشرّد، بهدف ترتيب مراسم دفن تليق به، هي التي لم تعرف شيئاً عن والدها منذ أعوام مديدة. وعلى الرغم من هذا، أي على الرغم من لقائه بها وشعوره الإيجابي تجاهها، لم يتبدّل الكثير في ملامحه الخارجية العامة، باستثناء تفاصيل صغيرة في ملبسه وحركته وسلاسة حضوره، قبل أن ينتزعه الموت من البداية الجديدة هذه.
حافظ أوبيرتو بازوليني على نسق متماسك في سرد الحكاية من وجهة نظر رجل أربعيني يعمل مع الموتى ويعيش مع الأحياء، وإن بعيداً عنهم جميعهم. فالتصوير مترافق وقوة التعبير البصري الصامت عن عوالم جون ماي، والتوليف متلائمٌ والملامح التي تميّز الرجل في يومياته. بينما لم تخرج البلدة من قسوة الطبيعة التي تزنّرها، كأن يكون الرماديّ أكثر سطوة على الإضاءة، وكأن يكون البياض فاعلاً أحياناً وإن بشكل غامق يميل إلى تفعيل معاني الحزن والبساطة والسكينة الملتبسة. أما النصّ الأصلي، فمتين في بنيته السردية، ومتماسك في متابعته حكاية رجل رأى، في وظيفته هذه، سعادة حقّة، ربما بسبب قناعته بها، وقبوله إياها كنوع من ترضية الذات في مرافقة الراحلين في لحظات عبورهم إلى الضفّة المقابلة للحياة، مخفّفاً عنهم قسوة وحدتهم وعزلاتهم.
بين لقطات أولى تختزل وظيفة جون ماي وعالمه ودقائق عيشه، ولقطات أخيرة تعكس انعدام الوحدة لديه بفضل قيام الراحلين من قبورهم لوداعه الأخير، في مشهد مؤثّر وانفعالي جميل، شكّل "حياة ساكنة" مساحة تأمّل سينمائي وإنساني وثقافي، في أحوال الدنيا والناس والعلاقات والمسارات والأقدار والخيبات. وإذا أحال البعض مناخات الفيلم إلى عالمي الفنلندي آكي كوريسماكي والياباني ياسوجيرو أوزو، إلاّ أن "حياة ساكنة" أتقن فن استخدام الصمت في اشتغالاته الفنية والدرامية والجمالية، وأتقن أيضاً كيفية مزج الحوارات الضرورية جداً بهذا النقاء الروحي الذي جعل من جون ماي نموذجاً لمعنى الصداقة الحقّة، وإن من طرف واحد.
نديم جرجوره