"لمسة الخطيئة": مصائر دموية في إمبراطورية ماو
"لمسة الخطيئة" لجا جنكيجائزة اللؤلؤة السوداء للفيلم الروائي/مسابقة الأفلام الروائية- يعرّف صاحب "المنصة" (2000) و"متع مجهولة" (2002) المخرج الصيني المميّز جيا جانكي جديده المفعم بالقسوة والدم والانتقام "لمسة الخطيئة" على النحو التالي: "هذا فيلم عن أربع حالات موت. أربع حوادث جرت في الصين في الأعوام الأخيرة، ثلاث منها جرائم قتل، والأخيرة انتحار. عرفها المواطنون وانتشرت بينهم إعلامياً. سعيت عبر استخدام هذه التقارير الإخبارية إلى تكريس صورة شاملة للحياة في الصين المعاصرة. الصين التي تتغيّر بطريقة سريعة، حيث تبدو البلاد معها أكثر إزدهاراً من ذي قبل. لكن أناساً كثيرين يواجهون أزمات شخصية بسبب الإنتشار غير المتكافىء للثروات، الذي أدّت إلى تعميم بون شاسع بين الأثرياء والفقراء". هذا الاقتباس ضرورة معرفية للوصول إلى فهم مقنع بخصوص كمية الدماء التي تسفك في نصّه الفاجع، الذي يتحامل فيه على فساد الذمم بين أهل بلده.
الجلي في اشتغال جانكي أنه نأى بنفسه وفيلمه عن تبرير الحالات وإضفاء روح مأسوية على ضحاياها. نص يقف على الحياد، وإن أصرّ البعض على الإشارة إلى إيغاله في الغمز إلى عسف السلطة التوتاليتارية للحزب الحاكم، وفساد موظفيه، كما هو الحال في المقطع الأول الذي يُظهر إقدام مواطن عادي يدعى داهاي (جيانغ وي) على تصفية عمدة بلدة نائية مشهورة بمناجمها وعمالها المهاجرين، إثر مشاداته معه على الغبن الذي لحق به وسرقة أمواله. بندقية هذا الرجل الغاضب لا تقتل المسؤول وحده، بل تُهرق دماء آخرين، كون انحرافهم لا عقاب له سوى إلغائهم. يقول المخرج جانكي في هذا الخصوص: "من السهل تجريد الناس من كراماتهم الشخصية. لذا، فإن اللجوء إلى العنف أصبح الوسيلة الأكثر نجاعة وسرعة في تمكين الفرد المستضعف من إستعادة هيبته المفقودة".
هذا "التجريد" يتجلّى بقوّة درامية في حكاية المرأة تشاو يو (جاو تاو، زوجة المخرج) العاملة في مكتب استقبال حمام بخاري "ساونا"، يرى فيها زبون غني ونافذ في السلطة المحلية أنها "صيد جنسي" عليه أن يطيع رغبات الزبائن. في وقت تعاني البطلة غربة ذاتية، بسبب جفاء عشيقها الرافض تطليق زوجته والإقتران بها، وإرتهان مصيرها بقرار عائلي معقد. بينما يتصاعد عناد الزبون ومحاولته اغتصابها، لكن لن يكون أمامها سوى الدفاع عن نفسها. المفارقة أن تراكب هذا المأزق الاعتباري يتمّ في مكان يفترض به أنه غير أخلاقي. بيد أن لقمة الخبز تفرض خيارات مرّة وغير منصفة في غالب الأحيان. ترتكب البطلة الجريمة، قبل أن تُعاقبها عائلة زوجة عشيقها على زناها وسعيها إلى سرقة رجل البيت بالضرب المبرح. يصوّر جانكي هروب الشابة تو كمؤشّر على رؤيته القاتمة في ما يتعلق بمفهوم "تحضّر" الصينيين، وتشكيكه في أن الفضائل الاجتماعية بدأت في الإنحطاط والزوال، ومثلها تصاعد مديات خيانات الكثيرين إلى مبادىء الشرف والاحترام التي طبعت هذا المجتمع العريق على مدى سلالاته المتعاقبة.
لا ريب في أن الحياة في مجملها ورطة إنسانية، نسعى فيها وخلالها إلى تقليل خساراتنا الشخصية أو التحايل عليها أو شراء وقت مستقطع لإبعاد استحقاقات القصاص. فماذا يفعل كائن هشّ وقع ضحية خطأ قدري؟ تلك حكاية الشاب تشاو هوي (لوو لانشان)، الذي تسبّب عن غير قصد في حادثة عمل. عندما يهرب، نتابع جزعه في التأقلم مع أعمال طارئة، ومثلها ظنونه بالإثم التي تقوده إلى التفكير في الانتحار. خسارة روح شابة تمثل انتهاكاً لميثاق بشري يعتبر أن الحياة معجزة جماعية، تتطلّب تعاوناً وأواصر وتفاهمات وتسامحاً وشفافية. بيد أنها، بحسب "لمسة الخطيئة" (يستعير عنوانه من الفيلم الكلاسيكي "لمسة زن" للمخرج كينغ هو، وفلسفته في الدفاع عن النفس)، قيم تُسحَق مع سقوط الضمائر التي يجسدها بحكمة سينمائية المشهد الافتتاحي الصاعق لراكب الدرّاجة النارية جاو سان (وانغ باوكويانغ)، الذي يواجه ثلاثة قطّاع طرق، سعوا إلى سرقته. فهو العابر المحصّن ضد الأشقياء، لن يتوانى من تصفيتهم بدم بارد والسير في دربه، قبل أن نتعرّف في نهاية الفيلم على كونه ربّ عائلة كبيرة، تطلب منه الهجرة والغربة في مدن امبراطورية أحفاد الزعيم ماو تسي تونغ، المليئة بالخطاة الذين تلطّخت يداه بدمائهم الفاسدة.
زياد الخزاعي