"سلام بعد الزواج" عندما يُصبح الزواج بين ثقافتين مدعاة للسخرية المريرة
"سلام بعد الزواج" لغازي البعليويفي ثنايا السخرية الضاحكة في الأسلوب السينمائي المتواضع والمستخدَم في تقديم الشخصيات والمناخ العام، جال "سلام بعد الزواج" (برنامج "عروض السينما العالمية") للأميركي غازي البعليوي في تفاصيل سياسية واجتماعية وثقافية متعلّقة بمنطقة الشرق الأوسط، من دون أن يتوغّل فيها، أو يحاكيها بشكل مباشر، إذ اعتمد لغة المواربة والكوميديا الخفيفة ليرسم شيئاً من ملامح الصراع القائم بين الفلسطينيين وإسرائيل. وعلى الرغم من أن جوانب متفرّقة من التفاصيل التي صنعت ثقافة كل جانب على حدة، وأن صدامات عديدة اندلعت في سياق الفيلم بين الطرفين، إلاّ أن الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج والسيناريست والمنتج والممثل المولود في الأردن في 13 يونيو/ حزيران 1976، حافظ على مسافة كبيرة من نواة هذا الصراع، محاولاً البقاء في دائرة الحبّ والزواج والهجرة والـ"غرين كارد" وغيرها من أمور يعيشها أو يعانيها أناس مهاجرون إلى الولايات المتحدّة الأميركية، أو مولودون فيها.
الحبكة الدرامية الأساسية بسيطة وعادية وجميلة: عرفات شاب في الثلاثين من عمره لا يزال مقيماً مع والديه في نيويورك، محاولاً إيجاد أي سبيل ممكن لإقامة علاقات سليمة بينه وبين امرأة لم يعثر عليها أبداً. وضعه الاجتماعي سيء ومُتعب، ووالده راغب في تزويجه كي يحظى بمتعة العيش مع أحفاده قبل موته، وأمه التي تدافع دائماً عن زوجها لأنه لم يتخلَّ عنها أبداً على الرغم من عجزها عن إنجاب الأولاد بعد عرفات، تحاول إيجاد توازن ما في العلاقة المضطربة بين الأب وابنه. الجنس جزءٌ من الضغط الذي يُعاني عرفات تداعياته، بسبب فشله الدائم في الحصول على متع جنسية بشكل راق وسوي. والعلاج الجماعي أخذه إلى صديق يسعى إلى مساعدته بشتّى الطرق والوسائل، قبل أن ينصحه بـ"زواج أبيض" يُفيده مالياً وجنسياً (هذا يعني الارتباط الرسمي بفتاة لمدّة معينة، بهدف حصولها على الـ"غرين كارد" لقاء مبلغ من المال، ثم يفترقان). لكن المأزق الفعليّ، المُصوّر بطريقة كاريكاتورية لطيفة ومُسلّية، كامنٌ في أن الفتاة الموعودة إسرائيلية، ما يعني أن العائلة الفلسطينية لعرفات لن تكون أقلّ رفضاً من عائلة الصبية الجميلة. ما يعني أيضاً أن رغبة عرفات في الانفصال عن والديه من أجل عيش حياته بشيء كبير من الاستقلالية، ستصطدم بالحواجز التي رفعتها الصبية الإسرائيلية داخل بيتها أمام من جاء لإنقاذها من ورطة البقاء في نيويورك بشكل غير شرعي.
عالمان متناقضان يُفترض بهما أن يُقيمان معاً، لستة أشهر متتالية، في بيت واحد، وتحت سقف واحد. عالمان متناقضان بدا واضحاً أن عرفات غير معنيّ بهما، قبل أن تظهر لامبالاة الشابّة الإسرائيلية بهما أيضاً. لكن، قبل الوصول إلى لحظة اللقاء بين الشابين، لم يبخل غازي البعليوي على مشاهدي فيلمه بفصول متتالية من المحاولات السينمائية لممارسة الفعل الكوميدي، خصوصاً عندما يرفض عرفات، في اللحظة الأخيرة، الزواج من صبية فلسطينية في عقر دارها، ما سبّب إحراجاً وعاراً لوالدها، الذي استشاط غيظاً دفعه وأفراد عائلته/ قبيلته إلى مهاجمة "العريس المفقود" ووالديه وضربهم جميعهم. في هذا كلّه، أي في الفصول السابقة على بداية العلاقة الفلسطينية ـ الإسرائيلية في نيويورك، يتابع المشاهدون لحظات متفرّقة من المآزق النفسية والمعنوية لعرفات، المُصوّرة بمزيج الكوميديا والمرارة السوداء والبساطة الدرامية في الكتابة والمعالجة السينمائية.
على الرغم من الصدامات كلّها، والحواجز كلّها، والاختلافات كلّها القائمة بين الفلسطيني والإسرائيلية، كان لا بُدّ لشعور عاطفي ما أن ينشأ بينهما، وأن يوطّد علاقتهما، وأن يُحرّرهما من ثقل الثقافة والتاريخ والجغرافيا والعادات والتفاصيل الجانبية الكثيرة، التي تؤثّر سلباً على علاقة كهذه. فالحبّ، مثلاً، بدا أقوى من كل اعتبار آخر. والرغبة في الاستقرار داخل عائلة واحدة بدت كأنها رغبة مبطّنة في الدعوة إلى استقرار يوحّد الطرفين المتحاربين منذ سنين بعيدة، وإن لم يُعلن "فقط في نيويورك" هذا الأمر بصراحة ومباشرة.
أما بالنسبة إلى أدائه التمثيلي، فقد حاول غازي البعليوي أن يوفّق بين شخصيته كشاب راغب في ارتباط عاطفي جدّي، وكابن عائلة تمارس عليه كل أنواع الضغوط، وبيئة متشدّدة في التزام تقاليدها. وهو تعاون هنا مع الممثلة الفلسطينية هيام عبّاس (شخصية الأم)، بعد أن مثّل في فيلمها الروائي الطويل الأول "ميراث" (2012) كمخرجة. معاً، شكّلا ثنائياً جميلاً في مقارباتهما أحوال البيئة التي جاءا منها، والواقع الذي يعيشانه، والحالات الإنسانية التي يسعيان إلى التأقلم معها وفقاً لما يتلاءم وأمزجتهما، وبأقلّ كلفة معنوية ونفسية ممكنة.
نديم جرجوره
*يعرض الفيلم بحضور مخرجه غازي البعليوي و المنتجين فاروق أوزرتين وأرين كاتين
العرض الثاني: الخميس 10/31/2013 18:30 فوكس 2