"الصورة الناقصة": تاريخ الفواجع الإنسانية.. بدمى من صلصال
"الصورة الناقصة" لريثي باناستعاد المخرج الكمبودي الشهير ريثي بان تاريخ واحدة من فواجع البشرية، المتمثّلة بجرائم نظام بول بوت ومسوخه من قتلة "الخمير الحمر" الذين أعدموا ملايين البشر، انطلاقا من فلسفة حمقاء في خلق "الإنسان الأصفر"، وتأسيس مجتمع مثالي يعمل بسخرة وعبودية حتى الموت لإظهار ولائه للأخ الأكبر. وهو هنا يستكمل خطّه النضالي، الذي شعّ في أفلامه "أناس الرز" (1993)، و"بوبانا: مأساة كمبودية" (1991)، و"أس 21: ماكنة مجازر الخمير الحمر" (2003) ،من بين عناوين أخرى، التي أجمعت على تعريته فظاعات "حقول القتل" التي راح ضمن ضحاياها والده، الذي تقف ذكراه خلف إنجاز هذا الفيلم المدهش.
نأى المخرج بنفسه عن التوثيق التقليدي، واختار أسلوباً تشكيلياً تغريبياً بحتاً، قامت فكرته على أن سرد تواريخ الدم سهل، بيد أن إقناع مُشاهد عالمي بشناعات قتلة مضوا وكادت الذاكرة تنساهم، رهانٌ عصيّ ومغامر. عليه، وجد نفسه أمام حلّين: إما أن يستلف تاريخ موت والده ويضعه كصور ثابتة،وإما أن يحرّك ما هو أكثر هلامية: خيال متفرّج فيلمه. انتصر الخيار الأخير، فصنع فيلماً لا يشبه غيره، مُفعماً بالدهشة السينمائية. كمنت ابتكاريته واختلاف معالجته من خلال صنعه آلاف الدمى الصلصالية بأوضاع مختلفة، تتبع منطق الأحداث ومواقعها (كوخ، حقل، معتقل، مرقص، مدرسة، استديو تلفزيوني، وغيرها). أرجع بان اختياره هذا في حديث صحافي إلى أنه "كبوذي، فإن الدمى هي أكثر من مجرّد قطعة من الحجر بالنسبة الينا. الطين مادة أساسية ومثيرة جداً للإهتمام. إنها الأرض والمياه، ومع النار، شكّلت الحياة. كان من المهم جداً بالنسبة إلينا إعطاء التماثيل تعبيراً دقيقاً جداً كي نمنحها الروح". أضاف: "في الواقع، ما هو الفن؟ الفن هو إعطاء ما صنعت روحاً. لهذا السبب يقال إن الربّ فنان". صَوّر بان تماثيله الصغيرة الحجم المرسومة والملوّنة يدوياً، ضمن مسرد تاريخي درامي، داعياً المُشاهد إلى الانغمار بلعبة سينمائية فذّة غير مسبوقة، غاوياً إياه للمشاركة في تغيير منطق النص وتصوّره وتمثّله. إلى ذلك، سجّل شهادته الشخصية بضمير متكلم ألقاها عنه ممثل محترف. شهادة هي عبارة عن حكاية وجعه وخساراته، مرفقاً هذا كلّه بوثائق سينمائية، وصُوَراً من ألبوم عائلته، ومشاهد من العصر الذهبي الذي كانت تعيشه العاصمة بنوم بنه، قبل صعود القتلة.
فيلم ريثي بان نصّ نضالي بامتياز، يتطلّب إشراكاً وجدانياً للوصول إلى متعة خيالية تُبرّر للمُشاهد أن ما يراه ليس دمى بل ممثلين، توقّفت حركتهم لأن التواريخ التي تُسرَد تجمّدت ولم تعد فيها حياة. إنها مثل عشرات آلاف الجماجم التي رُصفت في المتحف الخاص بالجرائم ضد الإنسانية، التي قام بها "مجرمو كمبوتشيا"، وستبقى شواهد على دمويتهم العمياء،وسفكهم دماء مليون وسبعمئة ألف شخص بين العامين 1975 و1979. كان بان في الثالثة عشرة من عمره عندما زُجّ بوالديه في "حقول القتل" المشؤومة، ولم يسمع سوى حكايات عن شجاعة والده، الذي قرّر الصوم احتجاجاً على المهانات، فجاء عمله (جائزة "نظرة ما" في مهرجان "كانّ" السينمائي الأخير، في أيار/ مايو 2013) بمثابة نعي بطولة بشر أفنتهم لوثة حزبيّة مجنونة.
المعضلة في "الصورة الناقصة" أنه عصيّ على التصنيف. فهو ليس وثائقيا بالمعنى القاموسي، وليس تجريباً سينمائياً. حتى أن ريثي بان لم يفلح في تخصيصه، إذ قال لـ"هوليوود ريبورتر"، الصحيفة السينمائية الأميركية المتخصصة: "من الصعب جداً أن نقول ما هو نوعه. أودّ ببساطة اعتباره فيلماً وحسب. أجريت بحوثي (قبل التصوير) وكأنه فيلم وثائقي، وقاربته فنياً على هذا الأساس. لكن بعض عناصره حتّمت في النهاية إشاعة الإحساس بأنه روائي. بالنسبة إليّ، أفضل الأفلام هي (المصنوعة) من كلا النوعين السينمائيين".
زياد الخزاعي
العرض الثاني: السبت 11/02/2013 18:00 فوكس 3