"فيللا 69" للمصرية أيتن أمين في وداع أهل ومدينة وبيئة وتاريخ وذاكرة
"فيلّلا 69" لأيتن أمينأفضل مخرج من العالم العربي/مسابقة آفاق جديدة - لا شكّ في أن الإهداء المكتوب قبل الجينيريك الأخير لـ"فيللا 69"، الروائي الطويل الأول للمصرية أيتن أمين (الحاصل على منحة "صندوق سند" في "مهرجان أبوظبي السينمائي")، يختزل العلاقة المرهفة بين صانعة الفيلم ومضمونه. فعلى الرغم من أن الحبكة المعقودة على شخصية حسين (خالد أبو النجا، المنتج المنفّذ أيضاً) تكشف، منذ البداية، وقوع هذه الشخصية في فخّ المرض، والإقامة في المكان الأخير لها قبل الرحيل، إلاّ أن الإهداء (إلى أبي) يحوّل النصّ إلى داخل المنزل العائلي الخاص بالمخرجة، ويذهب بالعمل كلّه إلى التخوم العالقة بين الذاتيّ البحت والمهنيّ المطلوب منه أن يستفيد من أدوات التعبير السينمائي.
منذ اللحظات الأولى، تظهر الملامح الأساسية للمسار الدرامي، من خلال حسين نفسه، محور العمل والحراك داخل الفيللا، الذي تظهر ملامح المرض عليه، ومفردات السخرية والنزق والازدراء المتمكّن منها إلى حدّ مُدهش، يثير الضحك أحياناً، لكنه يرسم الصورة الأخيرة لرجل في الخمسينيات من عمره يمشي الهوينا باتجاه رحيله الأخير. لكن "فيللا 69" لا يكتفي بمتابعة تفاصيل الحياة اليومية لحسين وصحبه، الموزّعين على شقيقة وحفيدها وأصدقائه، وعلى أصدقائه الذين يعزفون ألحاناً مختلفة وإياه ويأكلون ويشربون ويُدخنون معاً، وعلى عاملين في مكتبه/ شركته للهندسة المعمارية، والممرضة التي تُعنى به، وتخبره أشياء من حياتها الخاصّة، وتفتح قلبها له، خصوصاً فيما يتعلّق بخطيبها الشاب، العاجز عن الزواج بها لأسباب مالية. ذلك أن ما ابتغته أيتن أمين، بالإضافة إلى هذا كلّه، كامنٌ في إلقاء نظرة قد تكون الأخيرة هي أيضاً على القاهرة القديمة، وعلى أنماط الحياة سابقاً في مدينة لم تعد قابلة للتنوّع الثريّ في حنايا نسيجها الاجتماعي الراهن. فالتلميح إلى وحش العقارات يمرّ هادئاً في طيات الحبكة، لكن بوضوح. والحنين إلى اللحظات الجميلة والمندثرة يُضيف شيئاً من حيوية استعادة ذاكرة يُراد لها أن تُمحى من الوعي الفردي والجماعي. بينما "النزاع" الخفيّ بين الفن الغنائي العريق (أم كلثوم مثلاً) والتطوّر الآنيّ في الموسيقى والكلمات والألحان والتوزيع، يعثر لنفسه على مكان داخل السياق الحكائي لسيرة حسين في أيامه الأخيرة.
يُمكن القول إن النص السينمائي (سيناريو محمد الحاج ووائل عمر) ينطلق من الشخصيّ البحت، وينفلش على عناوين تُصيب الراهن المصري في الاجتماع والثقافة والتربية. وهذا، بحدّ ذاته، كفيلٌ بمنح المشروع فرضية الانطلاق من الحميميّ داخل العائلة إلى الحميميّ في العلاقة بالزمن، الماضي منه والحاضر، وبالأمكنة العتيقة الآيلة إلى الزوال، وبالفضاء الإنساني العام أيضاص، الذاهب بدوره إلى حتفه. وعلى الرغم من أن الحبكة مروية كلّها داخل جدران الفيللا (والشارع الموازي لمدخلها الرئيسي)، باستثناء المشهد الأخير، إلاّ أن التساوي في الوداع متين الصنعة، بين وداع رجل، ووداع مدينة، ووداع راهن، ووداع ذاكرة. لكن الوداع، بحسب ما يوضحه النصّ السينمائي، لا يبقى أسير بكائيات وانفعالات ساذجة ومُسطّحة، بل يظهر قاسياً ومحصّناً بالسخرية والنزق والازدراء في شخصية حسين، والعصبية والعدائية اللتين يتمتّع بهما أيضاً.
وحدة المكان في "فيللا 69" لم تُقابلها وحدة الزمان، لأن مسار الأحداث اليومية يمتد على نهارات وليال محدّدة بفصل الشتاء، أو الخريف. وإذا لم يكن لهذا التفصيل أهمية تُذكر، إلاّ أن البقاء داخل الفيللا عكس رغبة في القول إن العزلات، التي تُصاحب أمراضاً خطرة كالسرطان مثلاً، تتوزان والعزلات التي يفرضها التغيير القاسي في البنى الاجتماعية والحياتية والعمرانية. والتمزّق المُصاحب لهذا التغيير خارج الفيللا يجد صدى له داخل المكان الوحيد الذي أراد حسين البقاء فيه ريثما تأتي النهاية، علماً أنه مُصرّ على البقاء وحيداً، ظاهرياً على الأقلّ، وبالحجم نفسه لحاجته إلى عدم البقاء وحيداً في لحظة كهذه. وما التدرّج في التعاطي مع المحيطين به من ذروة القسوة والعدائية إلى شيء من الحميمية والحنان، إلاّ التعبير الأجمل لهذه الرغبة المزدوجة.
إلى ذلك، حاول خالد أبو النجا أن يُضيف إلى رصيده السينمائي دوراً مختلفاً، ولو بشكل طفيف، فإذا بتحوّله إلى حسين المنتظر موته يُصبح امتداداً لشخصيات سينمائية مختلفة، بعضها منتم إلى سينما مصرية (وعربية) مستقلّة ذات ميزانية متواضعة، تحاول أن تجعل الصورة السينمائية الصافية مرايا ذات وعلاقات وحالات وانفعالات. كما أنه أراد تثبيت مكانة إنتاجية له، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحركة إنتاجية شبابية جديدة، تستفيد من الطاقات السينمائية لمجموعة من المخرجين الشباب، وتعمل معهم على تفعيل نمط سينمائي مختلف عن السائد التجاري الاستهلاكي. علماً أن أيتن أمين، التي منحها فيلمها الروائي القصير "راجلها" (2006) انطلاقة واعدة، ليست بعيدة عن هذه المناخات الإنتاجية والثقافية السينمائية، هي التي اشتركت في تحقيق جزء من الفيلم الجماعي "تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي" بعنوان "الشرس"، مع تامر عزت (الطيب) وعمرو سلامة (السياسي). وإذا بـ"فيللا 69" يأتي كخطوة إضافية على دربها السينمائي الطويل.
نديم جرجوره