"جدران"الهوة التي نعمقها بأيدينا
"جدران" لفرانشيسكو كونفرسانو و نيني غرينيافينيالإنسان جسار عظيم. جسر المسافات التي عاش فوقها فبنى سفناً قطع بها عباب البحار ليصل بها الى جهات الأرض الأخرى. عَبَر الصحاري وتسلق الجبال وجير كل معارفه ليركب البر والجو، وهو نفسه ويا للمفارقة العجيبة بنى حواجز ومن كل الأشكال لتفصله عن الآخر. بنى جدراناً اسمنتية، ترابية، حديدية.. وابتكر وسائل تعزل الضفاف والأرض، فكل يوم تُشيد في عالمنا جدران وتهدم.. ترتفع هنا وتهوى هناك لكن أصعبها على الإطلاق هي تلك التي تبنى في دواخلنا وفيلم الثنائي فرانشيسكو كونفرسانو ونيني غرينيافيني عن تلك الجدران التي يصعب هدمها. وإذا كان جدار برلين قد قسم العالم الى قسمين واحتاج منا أكثر من ثلاثة عقود لينهار، فثمة جدران نفسية صعبة الإزالة، تقام في دهاليز عقولنا ودواخلنا تحتاج الى زمن طويل حتى تمحى والعينات التي قدمها فيلم "جدران" تدلنا عليها: فعلى مسافة ألف كيلومتر بنى الأمريكيون جداراً عازلاً بينهم وبين جيرانهم المكسيكيين. أرادوا من خلاله وقف عمليات التسلل التي يقوم بها مساكين الطرف الآخر من "الأرض" للتخلص من فقرهم.
في قرية نوغاليس الصغيرة والتي تجسر المسافة بين الطرفين نصب الثنائي الايطالي كامرتهما ليرصدا من خلالها ما يجري على طرفي الجدار. في الجانب المكسيكي سجلت آلاماً وحكايات تدمي القلب. نساء تركن أطفالهن دون معيل على أمل الوصول الى أرض ثمارها من ذهب، رجال باعوا كل ما يملكون وأعطوه لمهربين وعدوا كذباً بأن يوصلوهم الى بر الأمان، وشباب غامروا بأرواحهم، أكثر من مرة، حتى يعبروا الجدار المخيف لكنهم عادوا الى الطرف الذي جاءوا منه محملين بخيبة الأمل والشعور بالذل والمهانة، وهذا ما يؤلمهم أكثر من غيره. ليست المخاطرة ومخاوفها وخيباتها ما يحز في نفس الخائبين، بل سوء المعاملة التي يلقونها من الطرف الثاني؛ المتغطرس، والمتخم الشعور بالتفوق. ليست "الصلبان" التي علقت على الجدران لتخلد ذكرى من قتل تحت ظلها ما يحز في أنفس المكسيكيين بل الاحساس بالإذلال.
فمَن مات مات، ودفع ثمن مغامرته، لكن من يعود الى أرضه وقد جرح في كرامته فلن ينسى بسهولة ما تفعله الجدران بالإنسان وكيف تفصله عن الثاني بقوة هي أشد آلاف المرات من شدة فصل الجدار الأصم. وجسر ميتروفيتسا في كوسوفو يدلنا هو بدوره على جدار آخر يعزل طرفين مشبعين بالأحقاد والكراهية والذكريات الأليمة، فصل لا تقل قساوته عن جدار نوغاليس، وقصته مرتبطة مباشرة بالحرب المخيفة التي قسمت بلاداَ كان اسمها يوماً يوغوسلافيا. هذة المرة الكاميرا صورت انقساماَ في بلد واحد بل في قرية واحدة تحول الجسر المقام على نهرها الى رمز يجسد انقسام سكان طرفيها: الشمالي والجنوبي. في الشمال يعيش الصرب وفي الجنوب الألبان وكلاهما له ذكريات حية عما فعله خصمه به خلال عشر سنوات من حرب أهلية جعلتهم وحتى اللحظة لا يثقون ببعضهم البعض ولا يريدون الاقتراب أكثر من منتصف الجسر، حيث قوة دولية تشرف على حمايته وتمنع سكان هذا الجزء من الوصول الى ذاك الطرف. جدار حديدي فوق الماء، يشبه غيره من الجدران لكنه يختلف عنها في مقدار سعة الهوة التي يصعب ردمها بين طرفين تقاسموا يوماً نفس الأرض وعبروا ربما لآلاف المرات نفس الجسر أما اليوم فهم مثل الغرباء، الجسر يرمز الى انقسامهم العميق وغربة كل واحد منهم في بلاده!.
قيس قاسم