"السطوح".. كيمياء الجزائر
"السطوح" لمرزاق علواش جائزة أفضل مخرج من العالم العربي/مسابقة الأفلام الروائية الطويلة - الزمان والمكان هما العنصران الضروريان عند كتابة يوميات أي مدينة في العالم. المكان غالباً ما يكون أساس الموضوع وبخصوصياته تتشكل وتختلف جماليات الكتابة على اختلاف أنواعها، أدبية كانت أم سينمائية. فيما يأتي الزمن في المرتبة الثانية فقد تطول مدة تسجيل اليوميات أو تقصر، لكن وفي السينما تحديداً يلعب الزمن دوراً فاعلاً لا يتوفر في نوع إبداعي آخر. إنه زمن مطاوع قابل للتحرك جيئة وذهاباً على غير ما هو في الحياة العادية. ثمة عناصر فاعلة ومتداخلة تحدد فهمنا للوقت وبالتالي لقياسه والموروث الثقافي والمعرفي يتفاعلان بقوة في حسم استخدام وحدات القياس، الى جانب الطبيعي (القمر والشمس). وفي موروثنا العربي لعب الدين دوراً مؤثراً في اختيارنا لوحدة قياس لها صلة بمواعيد الصلاة الخمسة ووفقها يرتب غالباً الناس شؤون حياتهم. ومع دخولنا زمن "العصرنة" اعتمدنا وحدة عالمية جديدة لكن ظلت وحدة القياس "التراثية " ذات الصلة الشديدة بالدين حاضرة، ما يمثل تداخلاً يشير الى اختلاط بين الموروث والعصرنة. وهذا ما أراد القياس عليه المخرج مرزاق علواش حين شرع في فيلمه "السطوح" بتسجيل الحياة في مدينة الجزائر خلال يوم واحد معتمدا وحدة قياس زمن لها صلة بتكوين المجتمع الجزائري نفسه. أما مكانياً فأراد ليومه أن يكون على أسطح تلك المدينة والحياة فوقها.
اعتمد علواش في "السطوح" كما في فيلمه "التائب" على منهج تحليلي لأسباب الظاهرة المتناول تقديمها سينمائياً، متخذاً هذة المرة من "الكيمياء" وسيلة لفهم التفاعلات التي تجري في بلاده. فالأواصر الإجتماعية مثلها مثل الكيميائية لا بد لها من توفر وسط يسمح لها بالتفاعل والتبادل. وأسطح بنايات مدينة الجزائر هي الوسط الذي ستتفاعل فوقه وحدات بشرية مع بعضها في تضاد أو تجاذب. والمدهش على مستوى الصنعة السينمائية انه اختار وسطاً يسمى في علم الكيمياء "اللاناشط" متمثلاً في أسطح بنايات المدينة شتاءاً، حيث الحركة/ التفاعل أقل منها صيفاً. وعلى المستوى الحياتي، غالباً ما يذهب مسجلو حياة المدن الى شوارعها أو الى العوالم السفلية الغامضة منها لاكتشاف أسرارها أو عرض المستور منها، بعكس علواش الذي أراد التعرف عليها من على الأسطح وتحت ضوء الشمس والقمر مباشرة.
خمسة أسطح في مدينة واحدة وفي يوم واحد، قدّمت الجزائر بكثافة نادرة التوفر، من دون اخلال بالشرط الجمالي الذي حرص علواش على توفره في كل أعماله بدءاً من "عمر قتلته الرجولة" حتى "السطوح"، معتمداً هذة المرة على لقطات واسعة للمدينة، يستخدمها كنقلة من سطح الى آخر، كفضاء جامع للحيوات التي مثلت عينات اجتماعية ارتبطت ببعضها بأواصر تعطي للمشهد معناه وبعده. فالفرقة الموسيقية وأعضاؤها الشباب يمثلون جيلاً جديداً من مجتمع يريد الانفتاح على ثقافة عصرية تتناقض كلياً مع مجاميع دينية تنشط بقوة وتنظّم نفسها على سطح مجاور. فيما تجري على سطح آخر عمليات قتل "عادية"، يتواطأ رجل الشرطة المتقاعد في "التستر" على واحدة منها في اعلان نادر عن حالة من الفوضى الإجتماعية ذات الصلة بالهوية وتحديد طبيعة المجتمع الجزائري نفسه. السطوح تكشف حالة الانقسام السياسي الاجتماعي الحاد في الجزائر وكيف يسري على الوحدة المنسجمة افتراضاً، فتبدو هي الأخرى شديدة التفكك. ثمة كذب اجتماعي وافر يعلن عن نفسه في سلوكيات تعمد علواش تجسيدها في شخصيات مؤثرة، كالرجل المحبوس في قفص للدواجن ومقيد بسلاسل حديد، صلته المباشرة بالعالم الخارجي طفلة موزعة بين تقديم الطعام له مثل حيوان "أسير" وبين "نضوج" مستعجل القدوم في مجتمع ذكوري بإمتياز يقف موحداً ضد المرأة وحقوقها. ثمة عنف سائد، يجسد الطبيعة العدوانية التي نشأت عليها أجيال من الجزائريين لم تعرف حتى اللحظة أي الطرق تسلك، وأي الأفكار تتبنى. شخصيات "السطوح" شديدة الاختلال تعكس تكويناتها النفسية والأخلاقية اختلال حالة الجزائر نفسها، والتي ظل ناسها يتفاعلون ويتصارعون فيها تحت مسمع صوت الآذان وكأن ما يجري على تلك الأسطح ليس له صلة بالمعنى الديني الذي يؤطر حياة المدينة كلها في اشارة واضحة الى شكلانية علاقة الجزائري بالدين وقوة استغلاله من أطراف "اسلامية" لأغراضهم السياسية. فيما يبقى الموقف واضحا من المرأة التي تهان وتضرب وتعامل ككائن ثانوي. لو نحينا الوسط المكاني الجامع للجزائريين، لبدا المشهد سوداوياً بحاجة الى مراجعة نقدية كالتي قام بها علواش ضمن مسؤوليته كسينمائي معني بما يجري في بلاده ويريد عبر وسيلة شديدة الفعالية عرض ملامحها الحقيقية. وقد اختار هذة المرة النظر اليها من سطحها وصولا الى اسفلها، في فيلم يضاف الى رصيد مخرج، يعرف كيف يقول حكايته وكيف يشدنا اليها بوسائل سينمائية متقنة، لن يتخلى عنها لصالح فكرته مهما كانت عميقة. فلو تأملنا جيداً في ما يقوله "السطوح" لوجدناه يغور إلى الأعماق وليس ما رأيناه في الأعالي إلا انعكاساً لما كان يجري في الأسفل أو لنقل في"القاع".
قيس قاسم