"من ألف إلى باء" للإماراتي علي مصطفى
لقطة من فيلم "من ألف إلى باء" إخراج علي مصطفىنديم جرجوره
تجربة إنتاجية عربية مشتركة عن أسئلة إنسانية عامّة
كل تجربة سينمائية إماراتية أو خليجية تستحق المتابعة الدقيقة، لأنها نابعةٌ من رغبة في تفعيل النواة التأسيسية لسينما محلية. "من ألف إلى باء"، الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج الإماراتي الشاب علي مصطفى، الذي افتتح الدورة الثامنة (23 أكتوبر 2014) لـ"مهرجان أبوظبي السينمائي"، والمُشارك في "مسابقة آفاق جديدة"، أحد تلك الأفلام التي تطرح أسئلة درامية وفنية وجمالية عديدة، لعلّ أبرزها معنى تحقيق فيلم في بلد يشهد نمواً ملحوظاً في عدد أفلامه المحلية في الأعوام القليلة الفائتة، وحصيلة عمل جماعي عربي مشترك، معقود على الكتابة والإنتاج والتمثيل. بالإضافة إلى المعطيات الإنسانية المطروحة في جوهر الحكاية، والمفتوحة على عناوين مختلفة: الصداقة، العلاقات الإنسانية، العلاقة بالآخر المختلف دينياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً، الرحلة المزدوجة في الجغرافيا العربية والروح الفردية، التحوّلات الحاصلة في العالم العربي منذ أربعة أعوام تقريباً (ما يُسمّى بـ"الربيع العربي")، الصدام القائم بين جيلي الآباء والأبناء، المغامرة الفردية في المشاعر ومواجهة التحدّيات في السياسة والاجتماع والحبّ والزواج والصداقة، إلخ.
عناوين كثيرة في فيلم واحد (108 دقائق)، تحاول أن ترسم ملامح جيل شبابي عربي واقع تحت وطأة التحوّل العام في بلاده. المنطلق الأول للفيلم يُعبّر عنه المخرج علي مصطفى (له "دار الحيّ"، 2009): "لطالما أردتُ أن أصنع فيلماً ينتمي إلى جانب من الكوميديا". يُضيف قائلاً إن القصص المرتبطة بالرحلات البرية تشدّه كثيراً: "الجميع يودّ القيام بها مع أصدقائه، لكن أحياناً وبسبب التزاماتنا اليومية لا نقوم بها". يُشير أيضاً إلى أن اختياره مواقع التصوير ومسار الرحلة "ليسا صدفةً"، لأن منطقة الشرق الأوسط كما يراها "منطقة خاصة من حيث تنوّع التضاريس الجغرافية، والمناظر الطبيعية الخلاّبة التي تختلف من مدينة إلى أخرى، وكذلك تنوّع الثقافات واللهجات، الذي ينعكس بشكل واضح في الفيلم"، منتهياً إلى القول إن القيام برحلة من أبوظبي إلى بيروت "وسيلة لعرض خصوصية وجمال المنطقة" (جريدة "الخليج" الإماراتية، 23 أكتوبر 2014). تحديد العمل بهذه المفردات لا يُلغي العناوين الفرعية العديدة، المتشعّبة في خارطة الرحلة ـ الفيلم. فالطبيعة، وإن كانت جميلة وذات خصوصية، تتلازم والانقلابات المتنوّعة التي تشهدها العلاقة القائمة بين الأصدقاء الثلاثة السوري عمر (فادي رفاعي) والمصري رامي (شادي ألفونس) والسعودي يوسف "جاي" (فهد البتيري). وتعدّد الثقافات واللهجات لا يُغيّب تعدّد المآزق والمخاطر التي تنزلق المنطقة إليها، أو التي يواجهها هؤلاء كل واحد مع نفسه، كما مع الآخر، سواء كان الآخر صديقاً أو أباً أو أماً أو زوجة أو حبيبة. والكوميديا التي اختارها علي مصطفى نمطاً سينمائياً في "من ألف إلى باء" (أي من أبوظبي إلى بيروت) لا تتستّر على كَمّ الأحزان والالتباسات والحالات المعلّقة، التي تأتي الرحلة لتضع حلولاً لها أو ما يُشبه الحلول، ولتدفع الأصدقاء الثلاثة على الأقلّ إلى الاغتسال من مراراتها، إما بالصدامات في ما بينهم، أو بكشف مكنونات النفس والروح والعقل، أو بخوض فعل المغامرة بحدّ ذاتها، بشتّى تفرّعاتها.
إنها الذكرى الخامسة على مقتل هادي، الصديق الرابع. كان ذلك إبّان ما يُعرف بـ"حرب تموز"، التي شنّتها إسرائيل على لبنان صيف العام 2006. ولأن هادي، قبيل موته، أراد القيام برحلة برية من أبوظبي إلى بيروت مع أصدقائه الثلاثة لحلّ خلافاتهم، ولاستعادة مناخ صحّي بينهم، يُقرّر عمر استعادة العلاقة بينه وبين يوسف ورامي عبر رحلة برية شبيهة بها. لم يستطع الأربعة القيام بالرحلة، لأن عمر تزوّج أروى (يُسرا اللوزي) التي كان يحبّها هادي. الأهمّ من هذا كلّه، أن الأصدقاء الثلاثة يقومون بالرحلة، ويواجهون مواقف كوميدية وحالات دراماتيكية. يصرخون ويضحكون ويتصادمون ويقولون ويبوحون ويبكون ويفعلون أشياء وأشياء، ويلتقون شابتين جميلتين إسرائيلتين في الأردن، ويتعرّفون في البتراء إلى من كانت حبيبة هادي (ليم لوباني)، ويغرقون في جحيم الحرب السورية، وينعمون بسلام داخلي عند زيارتهم قبر هادي، ويسهرون ليلة رأس السنة في بيروت.
طوال هذا المسار، يبدأ كل واحد منهم في مواجهة شياطينه الكثيرة. عمر يُعيد ترتيب علاقته بزوجته الحامل بعد زيارته هادي في قبره، ورامي يكاد ينظّم علاقته بأمه (مها أبو عوف) المتسلّطة عليه بقوة خوفاً عليه وحبّاً به منذ وفاة والده تحديداً، ويوسف يكتشف أن أفضل وسيلة لاستقلاليته الذاتية عن والده (عبد المحسن النمر) كامنةٌ في التصالح معه.
الانتماءات الجغرافية (الهوية، الجنسية، الثقافة، التربية) للأصدقاء الثلاثة المقيمين جميعهم في أبوظبي، لا تختلف عن الانتماءات الجغرافية الأخرى الخاصّة بصنّاع الفيلم الأساسيين، بدءاً من المخرج الإماراتي علي مصطفى، والسيناريست والمنتج المصري محمد حفظي، والمنتج المشارك اللبناني بول بابودجيان، بالإضافة إلى الجهتين الإنتاجيتين الأساسيتين "توفور54" و"إيمج نيشن" الإماراتيتين، و"روتانا" السعودية. لفلسطين حضورٌ أيضاً عبر الممثلين لوباني ("عمر" لهاني أبو أسعد) وعلي سليمان ("الجنّة الآن" لأبو أسعد أيضاً)، الذي ظهر في لقطة واحدة مع الممثل المصري خالد أبو النجا (في دوريّ جنديين في الجيش العربي السوري). التفاعل الحاصل بين هويات عربية مختلفة داخل عملية تنفيذ الفيلم لا بُدّ من التنبّه إليه، ومحاولة إيجاد سبل ما لتعميمه عربياً، عبر قنوات تواصل إنتاجي مشترك.
"من ألف إلى باء" مغامرة بحث عن خلاص فردي، ومشروع سينمائي يُغامر في رحلة تفعيل التواصل العربي، إنتاجاً وتمثيلاً وتوزيعاً.
الجمعة 24 أكتوبر، 8:45 مساء، فوكس 9