سيفاش.. رهانات العاطفة
لقطة من فيلم "سيفاش" إخراج كان موجديجهقيس قاسم
معضلة تركيا هويتها! كلام قيل في أكثر من فيلم تركي و"سيفاش" من بينها في سياق تحليل مجريات أحداثه ومكانها، هذة المرة، قرية تركية في أقصى الأناضول ما زالت تتحكم فيها قوانين وتقاليد الماضي العثماني بتجلياتها الأبرز: الذكورية والقوة. على هذين المظهرين الاجتماعيين، اشتغل كان موجديجة ليعالج أزمة الصبي المشاكس "أصلان" وكلبه "سيفاش".
لأصلان عالمه الخاص. صبي (11 عاماً) عنيد، ذرب اللسان، لا يأبه كثيراً بتراتبية الأسرة ويحب طالبة في صفه، ينافسه عليها طفل في نفس عمره يملك كلباً قوياً. الى هذا العالم الصغير، نظر موجديجة بمنظار عملاق ليجلي التفاصيل المحيطة به. تجليات الذكورية ساطعة فيه الى درجة غابت المرأة تماماً عن نصه السينمائي. قد يبدو هذا التوصيف متناقضاً، أليست الطالبة أنثى؟ سيأخذنا موجديجة معه بعيداً للإجابة أو الإحاطة الواعية بالسؤال. فعلاقة التنافس بين الصبيين منطلقها ذكوري صرف، والصبية جزء مكمل لـ"عفش" ذكوريتيهما ومن دونه يبقى بيت التركي ناقصاً. مشهد المدينة العام يوحي بأن هؤلاء الرجال قد ولدوا من العدم، خشونتهم لم تلينها عاطفة أنثوية قط. في مثل هذة المناخات يبتكر البشر علاقات تنافسية، والحيوانات غالباً ما تكون جزءاً من اللعبة والتسلية وغالباً على حسابها (في إسبانيا الثيران وفي أمريكا الجياد وفي أجزاء كثيرة من العالم الكلاب والمراهنة عليها). موجديجة أراد رسم علاقات القرية التنافسية عبر كلب اسمه "سيفاش" ليعطي مناخات فيلمه بعداً محلياً أصلياً كما هو نص فيلمه الذي يكشف عن مواهب سينمائية جديدة ستضيف الى السينما التركية الناهضة بقوة مفردات تعزز حضورها في السينما العالمية. لم يربِ أصلان كلبه منذ البداية؛ لقد وجده مهزوماً مذلولاً بعد خسارة شنيعة مع كلب الراعي كانغال، فأخذه ورعاه وأحبه بصدق. أراد اعادة الاعتبار اليه وربما الى نفسه أيضاً. فانتصار خصمه في أي مكان يعني خسارته على مستوى التنافس مع الصبية. عبر هذا الحافز ساق موجديجة أبطاله جميعاً الى حلبة صراع الكلاب. أرادها مكاناً يكثف علاقات أفراد القرية التركية مع بعضهم البعض ويعاين مستوى "تحضّرها" مقارنة بمدن "أوروبية" مثل اسطنبول!. لن تخرج تركيا بعد من عباءة الإرث العثماني مهما قالت وادعت وقرية "سيفاش" دليل موجديجة في محاججته السينمائية الحاذقة لمشهد تركيا اليوم ومحاولة الإجابة على السؤال الملحاح: الى أية ثقافة تنتمي؟.
في تفاصيل العلاقة بين الكلب والصبي تكمن أشياء كثيرة لعل أشدها مرارة نظرة القرية الذكورية الى مكونات مجتمعهم المعزول والى قساوة متأصلة لا تمنح مساحة كافية للعواطف والحب. يرينا النص المفتوح على عديد التأويلات والقراءات والمشغول بأسلوب سينمائي يجمع بين جماليات التصوير والبحث في التفاصيل النفسية والعاطفية لمكوناته، كيف تغيرت نظرة رجال القرية الى كلب صبيهم وكيف انعطفت مواقفهم إزاءه بعد أن حقق نصراً صغيراً معنوياً أول الأمر والآن يريدونه أن يكون "ربحاً" مادياً واعتباراً يشبع اشتراطات رجولتهم وقوتهم. جرو أصلان، من دون أن يريد، الى لعبتهم واستغلوا نواياه الطيبة. في لحظة درامية سيشعر أصلان انه خان كلبه وأنه يقوده الى حتفه بيده. لحظة عودة أصلان وسيفاش منتصرين سيشعران سوياً بأنهما قد هزما بالكامل لأنهما صارا جزءاً من نسيج علاقة مختلة غير سوية لا تولي الحب اهتماماً. في سؤال الى أصلان المنتصر عن الأغنية التي يحب سماعها يجيب السائق: "الرابعة"، وحين يتعالي صوت مؤديها ينفجر الحزن في دواخل الجميع. كلمات تكثف عذابات العاطفة في مجتمع لا يقر بوجودها منشغلاً بتعزيز خشونته وجلافته في ممارسات يومية. قيل الكثير عن علاقة الموسيقى بالنص السينمائي، وما تحدثه من تأثير عاطفي على متلقي المنجز البصري وأغنية "سيفاش" قد تصلح مثالاً على واحدة من أكثرها تاثيراً في نص آسر. وحتى لا ننسى لعب التصوير دوراً مقارباً حين راح يسجل جمال الطبيعة المحيطة بالقرية بعدسات كاميرا شديدة الحساسية تتحكم في درجاتها عين نبهة تلتقط كل ما هو حلو في تلك الهضاب الشائعة التي تحجم مساحة القرية وعلاقاتها الداخلية. يقيناً كان موجديجة مدركاً للمكان الذي صوره وعوالمه رغم حداثة تجربته السينمائية. فهذا عمله الروائي الأول وعليه حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي الدولي 2014 ما يشير الى موهبة تركية تجمع الوعي بالذوق السينمائي الرفيع وتعرف كيف تصنع مناخاتها الفيلمية وكيف تعتني جيداً بمفرداتها، ذكرنا منها الموسيقى (الأغنية) والتصوير ولابأس من التذكير بالنص والحوار اللذين جعلا من الصبي أصلان شخصية اشكالية تعبر بكثافة عن محيطها من دون إغفال تفردها. فأصلان مثل "سيفاش" كان يريد التعبير عن عواطفه في وسط لا يقبل التعبير الحر عنها.