"قلوب جائعة": التحولات الدرامية
لقطة من فيلم "قلوب جائعة" إخراج سافيريو كوستانزومصطفى المسناوي
لا توحي بداية "قلوب جائعة" أبدا بمساره السردي ولا بنهايته، ذلك أن البداية كوميدية تماما في حين أن المسار والنهاية يغرقان في الدراما والإثارة حتى آخر مشهد.
في المشهد الأول للفيلم، وهو عبارة عن لقطة ثابتة لمغسلة مرحاض في مطعم بنيويورك، تدخل امرأة (مينا) لتجد رجلا قبلها هناك (جود)، وحين تحاول الخروج منها تغلق عليها وتظل سجينة المرحاض رفقة الرجل لفترة قبل أن يكسر عليهما الباب. أثناء ذلك يتعرفان على بعضهما: مهندس وعاملة بالمجال الدبلوماسي. حالة الحصار هذه والحوار المصاحب لها يندرجان في مجال الكوميديا مباشرة، الأمر الذي يزداد قوة حين نعرف في المشهد الموالي أن هذا اللقاء غير المتوقع في مرحاض قد تحوّل إلى قصة حب. إلا أن مسار السرد سوف يتحول بنا، وانطلاقا من هذا المشهد ذاته، إلى دراما نفسية قائمة على الإثارة والتشويق.
إن علاقة مينا (التي لعبت دورها الممثلة الإيطالية ألبا رورفاشر) بجود (لعب دوره الممثل الأمريكي آدم درايفر) سوف تؤدي إلى حمل، ثم إلى زواج. وفي شقتهما الموجودة بحي مانهاتن، والتي تنتقل، بالتدريج، من عش للغرام إلى ما يشبه السجن الاختياري المقطوع عن العالم، تتحول مينا إلى امرآة مهووسة برضيعها الذي تعتقد أنه مخلوق استثنائي ينبغي حمايته من أخطار تتهدده خارج جدران البيت. بل إن الأخطار تتهدده داخل البيت أيضا، بالطعام غير الصحي المخصص للأطفال والذي يمكن أن "يسمّمه". لذلك فلا بديل عن الأكل الذي تحضره هي له بنفسها، من النباتات التي تزرعها بيدها في سطح الشقة حيث تقيم.
وحين يلاحظ جود أن الطفل لا ينمو وأنه مصاب بفقدان الوزن ويرغب في الذهاب به إلى طبيب، ترفض مينا ذلك بشدة، مما يحوّل علاقة الحب القائمة بينهما إلى علاقة توتّر وصراع تتضخم فيها الأشياء الصغيرة واليومية المعتادة في حياة زوجين شابين، يفترض بهما أن يكونا سعيدين بوليدهما الأول، لتصبح قضايا كبرى تشغل فكرهما وتعكّر صفو حياتهما على نحو مفاجىء وغير منتظر.
إن المخرج، سافيريو كوستانزو، لا يبقينا هنا مجرد متفرجين سلبيين أمام الحكاية التي تدور أمامنا، بل يمسك بنا ويأخذنا، عنوة، إلى داخلها، عن طريق لقطات مقرّبة لوجوه الشخصيات الثلاث الأساسية (الأب والأم والطفل)، وخاصة منها شخصية الأم التي تقترب منها الكاميرا في العديد من اللقطات إلى درجة أنها تكاد تخترق مسامها؛ أو عن طريق اعتماده لزوايا غير معتادة أو استعماله لعدسات تشوّه نِسَب الموجودات وتجعلنا نرافق "هشاشة" مينا (التي اختارها المخرج بملامح توحي بأنها على أهبة البكاء أو انتهت منه للتو) فيما يبدو أنه مسار لا مفر منه نحو الجنون.
لكنه "جنون" من نوع خاص، لا يرتبط بالحالة النفسية لفرد بقدرما يحيل على المجتمع ككل وعلى نوعية العلاقة التي يمكن قيامها بين زوجين (رجل وامرأة) في مدينة ضخمة معاصرة مثل نيويورك: فالشخصيتان تعيش كل منهما لوحدها، في عزلة تامة عن العائلة (ماتت أم مينا وهي صغيرة ويعيش جود بعيدا عن بيت أمه، ولا نعلم أي شيء عن والديهما)، وحتى عن الأصدقاء لاحقا. وحين يحاولان بناء "بيتهما" الخاص، اعتمادا على وليدهما الجديد، يكتشفان استحالة ذلك لأنه لا يمكنهما الاتفاق على طريقة واحدة لتربية ذلك الوليد وإعداده للمستقبل. وبالتالي فإن "العائلة" كما كنا نعرفها في الماضي قد ماتت تماما ولا مجال لإحيائها في ما سيأتي من أيام؛ وهو ما تؤكده النهاية المفاجئة التي اختارها كوستانزو لفيلمه، كما يؤكدها، خاصة، المشهد الختامي الذي يسير فيه الأب ووليده على الرمال جنب أمواج المحيط، في عزلة أخرى جديدة أو في عالم بدون نساء.